11 نوفمبر 2024
تونس ومخاطر عودة الاستقطاب
حين صعدت حركة النهضة في تونس، رفقة شركائها إلى الحكم، لتشكل معهم الترويكا سنة 2012، شعر خصومها أنها ستكون الرقم الأصعب في المعادلة السياسية الجديدة التي أفرزتها تحولات ما بعد الثورة، بل قد تكون الوحيدة التي قد تتحكّم في البلاد عقودا طويلة. كان حل حزب التجمع الدستوري الديموقراطي (الحاكم سابقا)، وفوران الحالة الثورية، قد أحدثا فراغا كبيرا في المشهد السياسي، بعد أن لاذت بالانزواء أو الصمت قيادات هذا الحزب، وزج بعض منهم في السجن، بتهم تتعلق بالفساد، وليس بانتماءاتهم السياسية تلك. ظل الباجي قائد السبسي الركن الصلب في ذلك كله نتيجة مكانته الخاصة، فعلى الرغم من أن الرجل كان مخضرما، حيث عايش ولاية رئيسين، بورقيبة وبن علي، وتقلد معهما مناصب وزارية عليا، وكان آخر ما تولاه رئاسة البرلمان في بداية فترة بن علي، فانه أمن الفترة الانتقالية، فخلال سنة تقريبا، وفي ظل تفكّك مؤسسات الدولة وتحلل بعضها، ترأس الحكومة على إثر إجبار الثائرين رئيس الحكومة آنذاك، محمد الغنوشي، على الاستقالة، نظم انتخابات المجلس التأسيسي في خريف سنة 2011، وسلم السلطة إلى المنتخبين الجدد، أي "النهضة" وشركائها، وكان هذا السلوك سابقةً قلّ نظيرها في عالم عربي لا يتداول الحكام فيه على السلطة إلا إثر موت أو انقلاب. وعد الناس أنه لن يعود إلى السياسة، بعد أن أنجز مهمته. ولكن لم تمض أشهر قليلة، حتى عاد بحزب جديد سماه "نداء تونس"، كان تجمعا سياسيا قائما على خلفية وحيدة، هي مواجهة "النهضة"، وقدمت قياداته الشابة برنامجها في شكل شعارات فضفاضة: إنهم حراس النمط، أي سدنة الحداثة التونسية، ونمط المجتمع التونسي كما رسمته التجربة التحديثية، وتحديدا النسخة البورقيبية منه.
جمع الرجل طيفا واسعا لم يلتق إلا على عداء حركة النهضة، فاجتمعوا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ولإيجاد مشروعية لهذه الفسيفساء والخليط الهجين إلى حد الغرابة وجدوا في
خلفية الروافد الأربعة المتعدّدة، والملتفة حول "نمط المجتمع التونسي" أرضية دنيا: الروافد.. الدستوري (الإرث البورقيبي)، النقابي واليساري والمستقل. لم يشتغل هؤلاء على تقريب وجهات النظر بين تلك الروافد على غرار الليبرالية الدستورية واليسارية النقابية مثلا. ولكن كان شغلهم الشاغل إنتاج خطاب تحريضي ضد "النهضة" ونسج مقولات أيدولوجية تحت شعاراتٍ تقابل مشروعهم مع مشروع "النهضة". وقد قال بعضهم من قيادات "نداء تونس" في بداية تأسيس حزبهم، لتكريس هذا التنافي المطلق "النهضة والنداء خطان متوازيان لا يلتقيان أبدا..".
سموا حزبهم آنذاك نداء تونس، وكأنه استجابة لإغاثة الوطن وإنقاذه من مشروع "النهضة"، أي تلك النسخة من الإسلام السياسي التي يسعون إلى إيجاد فزّاعة منها. واستغلوا في ذلك ضعف أداء الحركة في أثناء حكمها وحرّضوا عليها، حتى أسقطوها، وغادرت منكسرة. كان السياق الدولي والتحولات الإقليمية المناهضة لتجربة الإسلاميين، في ظل تنامي مخاطر الإرهاب التي عصفت بالبلاد، وحوادث الاغتيالات التي جدّت، فضلا عن ممانعة الدولة العميقة لأي إصلاح، من العوامل التي يسرت على "نداء تونس"، وحلفائه آنذاك، التعجيل برحيل "النهضة" وشركائها، وقد كانت مرونة الحركة والتفاهمات التي حصلت بين الشيخين في باريس تحديدا (راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي) حاسمةً، على الرغم من العسر والإحراج الكثيرين في الإخراج السياسي لهذا التوافق الجنيني. ونظمت بعد سنة على ذلك انتخابات 2014 التي أفرزت تحولاتٍ عميقةً في المشهد السياسي، وجنى "نداء تونس" ثمار ذلك، حيث حل في المرتبة الأولى، وآل إليه أمر الحكم، غير أن الانتصار لم يكن ساحقا، ما اضطرّه في تشكيل الحكومة إلى التحالف مع خصمه اللدود الذي أصبح بسرعةٍ فائقةٍ شريكه في الحكم. هل كان ذلك ضرورةً دفعت إليها نتائج الانتخابات، أم تفاهمات الشيخين المسبقة، والتدرج في بناء التوافق لاحقا، أم إملاءات الحلفاء الخارجيين؟ كل المؤشرات تفيد بأن كل تلك العوامل اجتمعت، وإنْ بجرعاتٍ متفاوتة.
ما أن سكن الباجي السبسي قصر قرطاج الرئاسي، حتى اندلعت نزاعاتٌ حادّة داخل الحزب الذي أسسه، وبفضله استطاع أن يهزم "النهضة"، وهو لم يعقد مؤتمره التأسيسي بعد. اندلعت النزاعات حادّة شرسة، متخلصة من أخلاق المناضلين، في ظل حياد دستوري، مفروض إلى حد ما، على الرئيس المؤسس للحزب، أي الباجي قائد السبسي. كانت للرجل قدرة فائقة على ضبط الأمور الداخلية للحزب، بمقتضى ما يتمتع به من هيبةٍ ونفوذ. ولكن ما أن تولى الرئاسة (من دون نسيان عامل السن أيضا)، حتى فقد السيطرة على شقوق الحزب العديدة، واندلعت صراعات وحرب مواقع تفجرت، من دون أدنى احترام للقواعد الأخلاقية. لم يقع استثناء أي المحظورات في ذلك: تهم الخيانة والرشوة والفساد كانت تتبادلها قيادات الحزب على بلاتوهات الإعلام، فضلا عن تسريبات الوثائق السمعية والبصرية المخلّة بالأخلاق السياسية... حتى انسحب من الحزب بعض من مؤسسيه ومموليه، ولم تفلح جميع محاولات الوساطة والمصالحة في جمع الشمل.
كانت صراعات الحزب، وهي في الأصل صراع مواقع تغذّت مع مصدر آخر، وهو طموحات نجل الرئيس، حافظ قائد السبسي، الذي استطاع، في ظل تلك النزاعات والإقصاءات والاستقالات، أن يرسم نفسه منفذا للتسلل إلى الإدارة التنفيذية للحزب. ينكر خصوم هذا الرجل عليه، من داخل الحزب، أي خصال أو كفاءات سياسية ترشحه لأي منصب قيادي، لكنهم يعترفون له بخصلة أنه ابن الرئيس، ولكنهم مستعدون للذهاب، بعيدا في صراعهم الشرس معه، حتى لا يكون ذلك شرعية للتوريث، في ظل حساسية التونسيين المفرطة من داء القرابة والوراثة السياسية، حتى ولو كانت وراثة ديموقراطية، والغريب أن طموحات نجل الرئيس كبرت، وانتقل بسرعة في حرب تصفيةٍ، لم يسلم منها ابن الحزب ذاته، ورئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد.
جاء زلزال الانتخابات البلدية أخيرا، فوقف الجميع فيها على ضعف حزب نداء تونس، أو ما تبقى منه، وقد تناسلت من شقوقه خمسة أحزاب قريبا، خاضت الانتخابات تلك، وخرجت بخفي حنين. سجلت تلك الانتخابات انجراف قاعدة "نداء تونس" الانتخابية وفقدان قلاعه التقليدية، بما فيها العاصمة ومدن الشمال الغربي، وحتى بعض المدن الساحلية.
الدرس المستخلص بسرعة أن خطر "النهضة" قادم من جديد، وهناك انتخابات رئاسية
وتشريعية بعد سنة وشهرين تقريبا. لذلك تتم حاليا إعادة إنتاج ذلك الخطاب القائم على الاستقطاب، وإحضار السرديات القائمة على تقابل المشروعين المجتمعين اللذين يعرضهما كل من "نداء تونس" و"النهضة"، في شكل لا يخلو أحيانا من التضخيم والفلكرة (من الفولكلور). وبدأت جلسات عديدة، من أجل أن تتحد تلك الأحزاب المنشقة عن الحزب الأم، وبعض المستقيلين منه أيضا، حتى يعود الجميع إلى بيت الطاعة، في ظل تشغيل كل تلك الفزاعات التي تم إنتاجها في لحظتين فارقتين: اعتصام الرحيل الذي كانت إحدى نتائجه رحيل حكومة النهضة سنة 2013 والحملة الانتخابية سنة 2014.
ولكن ستظل هذه المساعي الجارية الآن ملغومة بمحاذير عديدة، في ظل عدم التوافق حول مصير ابن الرئيس، حافظ السبسي، في ظل العجز عن الاتفاق على مرشحي الحزب للاستحقاقات السياسية المقبلة، فهذه المسائل كانت من أهم أسباب الخلافات والاستقالات بين قيادات الحزب الطموحة، والتي لم يعد لها كبير توقّره. خصوصا إذا ثبت أن الباجي لن يقدّم ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، ما يعني انسحابه من المشهد السياسي.
لن تظلّ المسائل عند هذا الحد، إذ سيضع هذا التوحيد المحتمل لشقوق الحزب إن وقع، وتحت هذه الخلفية بالذات، بل ستضع التوافق بين الحزبين موضوع اختبار عسير، خصوصا وأن خطاب التوحيد والتعبئة أعاد مجدّدا إنتاج الاستقطاب وقد بينت التجربة أن الحزبين خطان متوازيان، لكنها يمكن أن يلتقيا، من حين إلى آخر، من دون أن تحدث معجزات أو كوارث، فللسياسة قوانينها التي قد تعطل قوانين الفيزياء.
جمع الرجل طيفا واسعا لم يلتق إلا على عداء حركة النهضة، فاجتمعوا من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، ولإيجاد مشروعية لهذه الفسيفساء والخليط الهجين إلى حد الغرابة وجدوا في
سموا حزبهم آنذاك نداء تونس، وكأنه استجابة لإغاثة الوطن وإنقاذه من مشروع "النهضة"، أي تلك النسخة من الإسلام السياسي التي يسعون إلى إيجاد فزّاعة منها. واستغلوا في ذلك ضعف أداء الحركة في أثناء حكمها وحرّضوا عليها، حتى أسقطوها، وغادرت منكسرة. كان السياق الدولي والتحولات الإقليمية المناهضة لتجربة الإسلاميين، في ظل تنامي مخاطر الإرهاب التي عصفت بالبلاد، وحوادث الاغتيالات التي جدّت، فضلا عن ممانعة الدولة العميقة لأي إصلاح، من العوامل التي يسرت على "نداء تونس"، وحلفائه آنذاك، التعجيل برحيل "النهضة" وشركائها، وقد كانت مرونة الحركة والتفاهمات التي حصلت بين الشيخين في باريس تحديدا (راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي) حاسمةً، على الرغم من العسر والإحراج الكثيرين في الإخراج السياسي لهذا التوافق الجنيني. ونظمت بعد سنة على ذلك انتخابات 2014 التي أفرزت تحولاتٍ عميقةً في المشهد السياسي، وجنى "نداء تونس" ثمار ذلك، حيث حل في المرتبة الأولى، وآل إليه أمر الحكم، غير أن الانتصار لم يكن ساحقا، ما اضطرّه في تشكيل الحكومة إلى التحالف مع خصمه اللدود الذي أصبح بسرعةٍ فائقةٍ شريكه في الحكم. هل كان ذلك ضرورةً دفعت إليها نتائج الانتخابات، أم تفاهمات الشيخين المسبقة، والتدرج في بناء التوافق لاحقا، أم إملاءات الحلفاء الخارجيين؟ كل المؤشرات تفيد بأن كل تلك العوامل اجتمعت، وإنْ بجرعاتٍ متفاوتة.
ما أن سكن الباجي السبسي قصر قرطاج الرئاسي، حتى اندلعت نزاعاتٌ حادّة داخل الحزب الذي أسسه، وبفضله استطاع أن يهزم "النهضة"، وهو لم يعقد مؤتمره التأسيسي بعد. اندلعت النزاعات حادّة شرسة، متخلصة من أخلاق المناضلين، في ظل حياد دستوري، مفروض إلى حد ما، على الرئيس المؤسس للحزب، أي الباجي قائد السبسي. كانت للرجل قدرة فائقة على ضبط الأمور الداخلية للحزب، بمقتضى ما يتمتع به من هيبةٍ ونفوذ. ولكن ما أن تولى الرئاسة (من دون نسيان عامل السن أيضا)، حتى فقد السيطرة على شقوق الحزب العديدة، واندلعت صراعات وحرب مواقع تفجرت، من دون أدنى احترام للقواعد الأخلاقية. لم يقع استثناء أي المحظورات في ذلك: تهم الخيانة والرشوة والفساد كانت تتبادلها قيادات الحزب على بلاتوهات الإعلام، فضلا عن تسريبات الوثائق السمعية والبصرية المخلّة بالأخلاق السياسية... حتى انسحب من الحزب بعض من مؤسسيه ومموليه، ولم تفلح جميع محاولات الوساطة والمصالحة في جمع الشمل.
كانت صراعات الحزب، وهي في الأصل صراع مواقع تغذّت مع مصدر آخر، وهو طموحات نجل الرئيس، حافظ قائد السبسي، الذي استطاع، في ظل تلك النزاعات والإقصاءات والاستقالات، أن يرسم نفسه منفذا للتسلل إلى الإدارة التنفيذية للحزب. ينكر خصوم هذا الرجل عليه، من داخل الحزب، أي خصال أو كفاءات سياسية ترشحه لأي منصب قيادي، لكنهم يعترفون له بخصلة أنه ابن الرئيس، ولكنهم مستعدون للذهاب، بعيدا في صراعهم الشرس معه، حتى لا يكون ذلك شرعية للتوريث، في ظل حساسية التونسيين المفرطة من داء القرابة والوراثة السياسية، حتى ولو كانت وراثة ديموقراطية، والغريب أن طموحات نجل الرئيس كبرت، وانتقل بسرعة في حرب تصفيةٍ، لم يسلم منها ابن الحزب ذاته، ورئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد.
جاء زلزال الانتخابات البلدية أخيرا، فوقف الجميع فيها على ضعف حزب نداء تونس، أو ما تبقى منه، وقد تناسلت من شقوقه خمسة أحزاب قريبا، خاضت الانتخابات تلك، وخرجت بخفي حنين. سجلت تلك الانتخابات انجراف قاعدة "نداء تونس" الانتخابية وفقدان قلاعه التقليدية، بما فيها العاصمة ومدن الشمال الغربي، وحتى بعض المدن الساحلية.
الدرس المستخلص بسرعة أن خطر "النهضة" قادم من جديد، وهناك انتخابات رئاسية
ولكن ستظل هذه المساعي الجارية الآن ملغومة بمحاذير عديدة، في ظل عدم التوافق حول مصير ابن الرئيس، حافظ السبسي، في ظل العجز عن الاتفاق على مرشحي الحزب للاستحقاقات السياسية المقبلة، فهذه المسائل كانت من أهم أسباب الخلافات والاستقالات بين قيادات الحزب الطموحة، والتي لم يعد لها كبير توقّره. خصوصا إذا ثبت أن الباجي لن يقدّم ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، ما يعني انسحابه من المشهد السياسي.
لن تظلّ المسائل عند هذا الحد، إذ سيضع هذا التوحيد المحتمل لشقوق الحزب إن وقع، وتحت هذه الخلفية بالذات، بل ستضع التوافق بين الحزبين موضوع اختبار عسير، خصوصا وأن خطاب التوحيد والتعبئة أعاد مجدّدا إنتاج الاستقطاب وقد بينت التجربة أن الحزبين خطان متوازيان، لكنها يمكن أن يلتقيا، من حين إلى آخر، من دون أن تحدث معجزات أو كوارث، فللسياسة قوانينها التي قد تعطل قوانين الفيزياء.