تونس: نقابات أمنية أم أمن جمهوري؟

04 مارس 2016

مظاهرة نظمتها النقابات الأمنية أمام وزارة الداخلية (28اكتوبر/2013/Getty)

+ الخط -
كان الاتجاه العام للتحول السياسي في تونس بعد الثورة تصالحياً، واستفادت جميع القوى من النظام الجديد، بغض النظر عن مواقعهم قبل الثورة. وكان التصور العام يقتضي السعي نحو إعادة ترتيب العلاقات القائمة بين أجهزة السلطة السياسية والردعية من جهة وبين المواطنين من جهة أخرى.
وإذا كانت السلطة السياسية، زمن حكم بن علي، تسخّر القوى الأمنية للقمع والرقابة وحماية نظام الاستبداد القائم، فإنها، في الوقت نفسه، مارست صنوف الإخضاع والضبط على الأجهزة الأمنية، بل ووظفتها في إطار صراع الأجهزة، حيث لم يكن رجل الأمن يحظى بأدنى الحقوق بالمعنى الدستوري، على الرغم مما كان يشيع عن حالات الفساد والارتشاء وسوء التصرف ضمنها.
ومن هنا، كانت الإصلاحات السياسية العامة تقتضي مراجعة موقع هذه الأجهزة وإصلاح بنيتها وتحديد صلاحياتها، وهو ما جعلها تستفيد من الترقيات الاستثنائية، وفرص الترقي المهني والوظيفي، في خطوات حثيثة نحو تحويلها إلى أمن جمهوري، يخدم الدولة، لا النظام، ويحرس القانون ولا ينتهكه، ويلبي حاجة الشعب إلى الأمن والحماية، لا أن يقوم بدور القمع والرقابة. غير أن حالة الضعف العام للدولة استغلته جهاتٌ نافذةٌ في الأجهزة الأمنية لإعادة بناء مصالحها، مستفيدة، في ذلك، من عامليْن، أولهما حالة الصراع السياسي التي عرفتها تونس في أثناء الفترة الانتقالية، وثانيهما تواتر بعض أعمال الإرهاب والعنف التي جعلت المسألة الأمنية تصبح أولوية تقفز إلى صدارة الاهتمامات.
ومن المعروف أن نجاح الثورة في تونس اقتضى إبعاداً للقوى الأمنية من الشارع، خصوصاً في ظل الصورة السيئة التي يحملها الناس عن ممارساتهم، طوال سنوات الاستبداد، خلافاً للمنظومة العسكرية التي ظلت تحظى بالتقدير والاحترام، في الأوساط الشعبية، سواء لنأي قادتها بأنفسهم عن التجاذبات السياسية، أو لجهدها المبذول في تأمين الشارع والحدود زمن الثورة، حين تحول المنتمون إلى قطاع الأمن إلى مجرد أشباح، لا تجرؤ على الظهور في الشارع. وبالنظر إلى المسار التوافقي الذي قامت عليه الثورة التونسية، في تحولها من مسار ثوري حاسم إلى سياق سياسي، يقوم على تفاهماتٍ، استفاد الأمنيون كغيرهم، وربما أكثر من هذا المسار، ونشأت النقابات الأمنية في سياق مضطرب تاريخياً، تميز بضعف الدولة، وبصراع سياسي حاد، ولتصبح تونس أمام ثنائية حادة، كيف نبني أمناً جمهورياً، يقوم بوظيفته في خدمة الدولة، وفي الوقت نفسه، ما السبيل إلى التعامل مع مراكز القوى الأمنية التي اتخذت صبغة نقابية؟
ومن هنا، حاول دستور 2014 إيجاد صيغة لتنظيم الأمر الواقع (أعني النقابات)، وتقنين
الأمر الواجب (أعني أن يكون الأمن في خدمة الشعب). ولهذا، نجد الدستور التونسي الجديد ينص في فصله 19 على أن "الأمن الوطني أمن جمهوري، قواته مكلفة بحفظ الأمن والنظام العام وحماية الأفراد والمؤسسات والممتلكات وإنفاذ القانون، في كنف احترام الحريات، وفي إطار الحياد التامّ"، غير أنه، في الوقت نفسه، يحفظ للقوى الأمنية حقها في العمل النقابي الذي نالته بمقتضى المرسوم 42 (25 مايو/أيار 2011)، زمن حكومة الباجي قائد السبسي الانتقالية. وجاء الفصل 35 من الدستور ليؤكد هذا الحق في العمل النقابي، من دون الحق في الإضراب، حيث جاء فيه "الحق النّقابي، بما في ذلك حق الإضراب، مضمون، ولا ينطبق هذا الحقّ على الجيش الوطني، ولا يشمل حقّ الإضراب قوات الأمن الدّاخلي والدّيوانة"، غير أن الوقائع على الأرض أفضت إلى غير ما ينص عليه هذا الفصل، حيث لم تتخلَّ القوى الأمنية عن القيام بالإضرابات، وهو ما أثار مشكلات حادة في تعامل السلطة القائمة مع النقابات الأمنية التي أصبحت تتصرف، أحياناً، وكأنها سلطة موازية، تفرض خياراتها وشروطها، خلافاً لما ينبغي عليها بوصفها أمناً جمهورياً، ينصاع لسلطة القانون وللدولة التي ينتمون إليها.
وبغض النظر عن حالات الانفلات المحدودة، ليست النقابات الأمنية، في ذاتها، موحدة، ولا تنضوي تحت هيكل واحد، بالنظر إلى تعدد الأجهزة الأمنية، غير أن مواقف بعض هذه النقابات أصبحت تثير الريبة، خصوصاً في خلطها بين المطلبية النقابية والمواقف السياسية وتدخلها في الخيارات العامة للسلطة السياسية التي هي نتاج للاختيار الشعبي. وإذا كان من الممكن تبرير هذه الفوضى، بغياب ثقافة العمل النقابي لدى قيادة هذه النقابات وطبيعة التكوين الذي نشأت عليها، طوال عقود، خضعت فيه لعقيدة أمنية، تكرّس الدولة البوليسية وتخدم الاستبداد، وهو أمر يقتضي من السلطة السياسية الحالية القيام بخطواتٍ، أضحت ضرورية تتطلب مراجعة العقيدة الأمنية، لتتأسس على الحياد والانضباط والتحول من موقع التحرك خارج الأطر القانونية الشرعية إلى العمل ضمن السلطة الشرعية للدولة.
وبعيداً عن المبالغة في تصوير الموقف الحالي للنقابات الأمنية، علينا أن نميّز بين الجسم العام للأمن التونسي الذي عانى من المظالم، مثل كل قطاعات الشعب زمن الاستبداد، والذي يرغب اليوم في تطبيع وضعه شعبياً وقانونياً وبين مجموعات نقابية يتصرّف قياداتها ضمن أجندات تسيء للتحول الديمقراطي الذي تعرفه تونس، ويشوه صورته، وهو أمر لن يكون مقبولاً من القوى السياسية، ومن القطاعات العريضة للشعب التي تدرك أهمية الفترة الحالية، بوصفها لحظة فارقة في تأسيس دولة الجمهورية الثانية.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.