تونس في انتظار حكومة الرئيس

24 ديسمبر 2019
+ الخط -
وصلت المفاوضات السياسية التي يجريها رئيس الحكومة التونسية المكلف، الحبيب الجملي، إلى أفق مسدود، بعد إعلان حزبي التيار الديمقراطي، وحركة الشعب، رفضهما المشاركة في حكومته. ولتعود المداولات السياسية إلى نقطة الصفر، حيث انحسر الزمن، ولم يعد أمام الرئيس المكلف سوى أسبوعين، إذا فشل فيهما، تمرّ تونس إلى الخيار الثاني، أي تكليف الرئيس شخصية سياسية أخرى، تتولى تشكيل الحكومة الجديدة.
وكان واضحاً من البداية أن القوى السياسية التي تخندقت في موقع المعارضة، منذ لحظات الإعلان عن النتائج الانتخابية (تصريح الأمين العام للتيار الديمقراطي محمد عبو، مثلاً، يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، غداة الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات التشريعية، أن حزبه سيكون في موقع المعارضة)، ذهبت إلى التفاوض الحكومي من دون رغبة حقيقية في إنجاح مسار تشكيل الحكومة الجديدة، وهي التي طرحت جملة من الاشتراطات، سواء في قائمة الوزارات الراغبين في الحصول عليها، أو التي يريدون تحييدها. وفي النهاية، جاء بيان حزب التيار الديمقراطي (22 ديسمبر/ كانون الأول الجاري) الذي أعلن فشل المفاوضات فاقدا الحد الأدنى من المبرّرات المقنعة التي يمكن للرأي العام أن يصدّق أنها سبب كاف لتعطيل حكومة الحبيب الجملي.
واضح أن مشكلة الأحزاب في تونس ما بعد انتخابات 2019 رفضها التورّط في مشكلات 
الحكم، وتعتبره هدية مسمومة تعجز عن تحمّل تبعاتها، فهي أصلا غير مؤهلة للحكم، لا من حيث الكفاءات ولا البرامج ولا حتى القدرة على إدارة الخلافات، فضلا عن حل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتراكمة. ومن هنا لم يكن مستغربا أن تفضل هذه الأحزاب الرافضة المشاركة في الحكم البقاء في موقع المعارضة المريح، حيث تنخفض أعباء السلطة وتقلّ مخاطر مواجهة الرأي العام، بل وقد تكون فرصةً لتصوير نفسها بصورة المخلّص القادم. المشكل أن هذا الموقف ينطلق من تصوّرين للعمل السياسي، ما زالا يسيطران على الأحزاب في تونس. أولهما فكرة الخصومة الإيديولوجية التي تجعل صراعاتٍ ماضويةً حدّا فاصلا للتعامل مع الفرقاء السياسيين، وهذا يتجلى في موقف حركة الشعب، ذات التوجه القومي، والتي تعادي حركة النهضة، والتيار الإسلامي عموما، على خلفية النزاع التاريخي القديم بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر والإخوان المسلمين في مصر، وامتدت شظايا 
الخلاف، لتصبح قضية مركزية في أذهان أصحابها، مع أن الشارع التونسي الحالي لا تعنيه مطلقا هذه الخلافات، بل لا تعلم غالبية الجيل الجديد عنها شيئا فضلا عن أن يكون طرفا فيها. وعلى الرغم من التبريرات الشكلية التي قدّمها حزب حركة الشعب عن رفضه المشاركة في حكومة الجملي، فالواضح أنه كان يرغب، من البداية، في الوصول إلى الخيار الثاني، وهو حكومة الرئيس. الفكرة الثانية هي الحسابات الحزبية التي تعتبر التحالف مع "النهضة" سببا لتآكل الرصيد الشعبي أو اندثاره، وهو ما يجعل بعض الأحزاب تخشى التحالف معها، وربما كان هذا الدافع الرئيسي لموقف حزب التيار الديمقراطي، مع أن التجاذب السياسي في تونس يكشف أن لزوم مواقع المعارضة لا يضمن لصاحبه مزيد الانتشار السياسي، بل قد يفضي إلى خلاف ذلك، وهو ما أثبتته تجربة الجبهة الشعبية التي صعدت إلى مجلس سنة 2014 بخمسة عشر مقعدا، ولتنتهي الآن من دون مقاعد تذكر.
بقي أن يشار إلى أن الأصل في الأحزاب السياسية أنها كياناتٌ تتشكل من أجل التمرّس على الحكم والمساهمة في الشأن العام، وليست فقط أدوات احتجاجية، وإنْ من حقها ممارسة انتقاد برامج غيرها والاختلاف مع الأداء الحكومي، إلا أن مشكلة تونس اليوم أنها في حالة من الضيق السياسي التي لا تسمح بكثير من المناورة بين برلمانٍ يقوم على شظايا الأحزاب، ويخلو من قوة قادرة على تشكيل حكومة وازنة (وهذا من خطايا القانون الانتخابي) ورئيس جمهوريةٍ 
لا يخفي مناهضته النظام السياسي البرلماني ورغبته في إعادة تشكيل البنية السياسية نحو ما يسميها الديمقراطية المباشرة، وهو أمر يثير الخلافات أكثر مما يقدّم حلولا للأزمات، في مقابل تربّص رئيس حكومة تصريف الأعمال المزمن الذي يدرك أن فشل تشكيل حكومة الجملي تخدم فرص بقائه في منصبه، بل وقد يكون هو البديل المقترح من أجل الخروج من الانغلاق السياسي التي تعرفه تونس اليوم.
على الرغم من مرور ما يقارب العقد من عمر الثورة التونسية، لا يزال الوعي السياسي قاصرا في تونس، ولا تزال الأحزاب تعيد إنتاج الخطاب السياسي المشهدي نفسه، أي الذي يقوم على ما يشبه العرض الإعلامي الدعائي، بعيدا عن البرامج الإصلاحية الفعلية وتقديم الخطط العملية للخروج من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ما يعني أن التجربة الديمقراطية التونسية لم تبلغ بعد مرحلة النضج، وإنما هي لا تزال تخطو خطوات نشأتها الأولى.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.