تونس.. صورة عن ثورة قاصرة

08 ابريل 2018
+ الخط -
قدّم مجلس النواب التونسي، أخيرا، صورة سلبية عن الطبقة السياسية، وربما جل النخب، تركت موجة عارمة من الاستياء لدى الرأي العام. فقد نقلت التلفزة العمومية، مباشرة، مداولات المجلس في قضايا مختلفة، لعل أهمها التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة، فاكتشف الناس حجم العنف اللفظي المناسب في تلك المداولات، خصوصا بين نواب الحزبين الحليفين، نداء تونس وحركة النهضة. لم تكن هذه المرة الأولى التي تفلت فيها ألسن النواب، فقد سبق أن تبادلوا الشتيمة، بل المشادات اللفظية والجسدية في أكثر من مناسبة.
سيكون تفسير الأمر استنادا إلى العامل الأخلاقي وحده اختزالا، خصوصا في ظل تنامي منسوب العنف اللفظي وتعميمه. علينا أن نستحضر جملة من المعطيات، حتى نضع ما حصل في سياقات أشمل.
لقد انتهت ندوة عقدتها الهيئة العليا المستقلة للإعلام السمعي والبصري، واستنادا إلى دراسات علمية عن الإعلام واللغة، إلى أن منسوب العنف اللفظي ارتفع، بشكل غير مسبوق، في وسائل الإعلام العمومية والخاصة، كما أن اللغة المستعملة ذات الإيحاءات الجنسية أصبحت طاغية. ووسائل الإعلام هذه نفسها هي التي تنقل ما حدث ويحدث في مجلس النواب من تبادل الشتائم.
وقبل ذلك بأسبوع، تقدمت كتلة حزب نداء تونس (الحزب الحاكم) بمشروع قانون لمعاقبة مرتكبي "القذف الإلكتروني"، أولئك الذين يستعملون الشبكات الاجتماعية للتواصل للاعتداء على غيرهم، خصوصا من قيادات الرأي العام والإعلاميين ورجال السياسة، للحد من فيض اللغة العنيفة والتحريض على الكراهية وهتك أعراض الناس، خصوصا في ظل فراغات قانونية ووجود تشريعات مرنة، كما يرى بعضهم، فقد حذفت بموجب تشريعات ما بعد الثورة كل العقوبات السالبة للحرية (السجن) للإبقاء على خطايا مالية رمزية. وعلى خلاف الدول الديموقراطية العريقة التي ألغت عقوبة السجن في مثل هذه القضايا، وشددت على العقوبات المالية المرتفعة، كانت القوانين التونسية متسامحةً، ما شجع، حسب خبراء، ارتفاع منسوب هذا النوع من العنف تحديدا.
حين يستمع التونسيون من نائب دعوته الجيش إلى إعلان البيان رقم واحد، ويلح على أن يتولى القيام بانقلاب عسكري، لوضع حد لحالة التدهور التي عرفتها البلاد، فيرد عليه زميله، وتحت قبة المجلس، أنه يستحق أن يُعلّق في ساحة القصبة في العاصمة (يعدم)، ويتم توزيع أطرافه على مدن البلاد طرفا طرفا، وحين يهدد نائب (عن حزب فائز بفضل أصوات النساء) زميلته بأنه يحوز عنها صورا وهي ترقص، نعلم أن الأمر لا يتعلق بمجرد لغةٍ تحرّض على العنف والكراهية، بل إنه أعمق من هذا. إنه أزمة نخبة لم "تتدخلن" قيم الديموقراطية، ولم تتمثل  الفضاء العام مساحة لتبادل الآراء وتعميق النقاش، بل ما زالت تتمثله فضاءً للمبارزة والغلبة على شاكلة الإذلال والإهانة.
ما ينتهي إلينا من تلاسن ومشادات عنيفة بين أعضاء مجلس النواب والسياسيين المتحاورين في "بلاتوات" الإعلام هذه، لا تعد زلات لسان، ولا أيضا انفلاتا، إنما حالة تعكس عجز الثورة
 عن تغيير قيم الناس. كانت تونس، منذ أربعينيات القرن الماضي، على حد قول الشاعر بيرم التونسي الذي كان يزور تونس (بلده الأصلي) عاصمة الشتيمة. وقد اندهش الرجل من تفشّي اللغة العنيفة وذات الإيحاءات الجنسية في مقاهي العاصمة والفضاء العام، ولم تخل حتى جلسات المشايخ ودعاة الدين المغلقة من تلك اللغة، بل كانت أحيانا أعنف من لغة العوام.
كان الناس يتوقعون أن تطهر الثورة لغة الناس، وترفعهم إلى مقاماتٍ أرفع، خصوصا النخب منهم. ولكن يبدو أن كل التوقعات كانت خاطئة. لقد دفع الاحتقان الاجتماعي والعنف السياسي، النخب المتخاصمة إلى استعمال اللغة العنيفة سلاحا لإلحاق الأذى بالخصم. يبدو أن "ثقافة الغلبة" انتصرت على "ثقافة الأغلبية"، كما أن ثقافة الديوقراطية التي جاءت على غفلةٍ منا جميعا لم تكن، في حقيقة الأمر، سوى قشرة سطحية، لم تتغلغل في قناعاتنا وقيمنا، وفشلت في توجيه سلوكنا اليومي.
لقد عجزت الثورة، إلى حد الآن، في إصلاح لسان التونسي، وظل فاحشا وعنيفا، وربما تم تعميم ذلك على مساحات واسعة، وتم توزيع ذلك على الفضاءات العامة واختراق فضاءات العمل ووسائل النقل والإذاعات والأغاني، في ظل غول العنف المادي والجريمة التي تنتشر بشكل قياسي خطير.
كل المبادرات في اتجاه تخليق الحياة السياسية، قيما ولغة، غدت حاليا ملتبسة ومثيرة للشك، في ظل التلاعب الحاصل بوعي الناس وتضليله من نخب إعلامية ثقافية معينة، تجعل التخليق هذا وكأنه مرادف "لأسلمة المجتمع"، في حين أن الأمر مختلف تماما. ما يرسخ الثورات ليس ما ينجز من مكاسب اقتصادية، بل ما تشيعه من قيم تجعل العيش المشترك متعة وفضيلة. هذه فريضة للثورة ما زالت غائبة.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.