11 نوفمبر 2024
تونس.. حالة وعي
ما إن أُعلن في تونس فوز المرشح المستقل، قيس سعيد، في الانتخابات الرئاسية، قبل أسبوع، حتى تصاعدت حملات ودعوات مكثفة تحمل مبادرات مواطنية مختلفة، لعل أهمها تنظيف المدن والقرى، مقاطعة غلاء الأسعار، احترام إشارات المرور، وغيرها من السلوكات المدنية. صدرت هذه الدعوات عن مجموعات شبابية ناشطة في مختلف وسائل الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي. تلقف آلاف الشباب الدعوة، وشكلوا مجموعات متحرّكة لتنفيذ تلك المهمات، ما أعطى في أيام معدودة مشهداً مغايراً لتلك الشوارع والساحات العامة.
أعقبت هذه المبادرات ردود فعل مختلفة داخل الرأي العام، وأثارت نقاشاً حاداً في وسائل الإعلام. فهناك من رآها سنداً معنوياً جديداً لرئيس الجمهورية المنتخب قيس سعيد، على اعتبار أن هذه المبادرات صدرت عموماً عن مؤيديه، وهم جيوش إلكترونية، لها قدرة سريعة على المبادرة، وتتسم بالانضباط ضمن ثقافة قائمة على المواطنة والتطوع، وفي قطع مع السلبية التي ميّزت تحرّكات الشباب في السنوات الماضية. وهناك من اعتبرها جزءاً من الاحتفال بانتصار الرئيس، ولا تخلو من دعاية سياسية له، وتوقع أن تزول قريباً.
مع ذلك، تلقفت مؤسسات وهياكل عديدة في الدولة هذه المبادرات، وانخرطت في تلك الجهود، إذ وضعت وزارة البيئة والجماعات المحلية ووزارة التجهيز وبلديات عديدة معدّاتها ومواردها التقنية والبشرية تحت ذمة هذه المبادرات، للتخفيف من حدة المشكلات التي تراكمت بعد الثورة، في ظل حالة الانفلات السلوكي العام، وضعف رقابة الدولة ومؤسساتها: البناء العشوائي، تراكم النفايات... سلوكات غير مدنيّة، وتصرّفات خلنا أنها انقرضت.
تقدّم هذه المبادرات نسخةً مغايرةً للحركات الاحتجاجية التي عرفتها تونس في السنوات التسع التي تلت الثورة، فقد خرج الشباب فيها محتجّاً على تردّي الخدمات وتراكم الأوساخ وازدياد منسوب العنف، وكانت أصابع الاتهام تتجه، في كل مرة، إلى السلطة السياسية، وتحديداً الحاكمين، حيث حمّلهم الشباب المحتج المسؤولية كاملة عن تلك الظواهر والتجاوزات والإخفاقات التي شوهت البلاد. وهناك من استثمر هذه التحرّكات لصناعة حنين إلى النظام السابق، وكأن كل العيوب والنقائص التي لحقت بتونس كانت بسبب الثورة، حتى بدت البلاد لدى هؤلاء جنة موعودة، يحسدُنا عليها العالم المتقدم، ثم أخرجنا منها محمد البوعزيزي ومن والاه.
اختلفت، هذه المرة، ردود أفعال الشباب، وخير أنه كان مبادراً وإيجابياً، فاتجه يخاطب الضمير
المواطني، مختاراً، على غير العادة، عدم التوجه إلى السلطات، لتحميلها مسؤوليةً، بل ذهب إلى اعتبار أن ما يحدث من تجاوزات وإخلالات ناجمٌ عن سلوكاتنا الشخصية وتصرفاتنا الذاتية ومواقفنا الخاصة. لذلك، تستعمل تلك الحملات، من خلال الصفحات التي حفلت بها مواقع التواصل الاجتماعي، مفردات الوعي والضمير والواجب... إلخ، وهذه حالة وعي، كما يصفها التونسيون حالياً.
يذهب بعضهم إلى أن هذه المبادرات إذ تسبق تولي الرئيس قيس سعيد تأدية اليمين التي يباشر بمقتضاها رسمياً منصب رئاسة الجمهورية، فكأنها احتفاء به، وتشديد على أنّ أصحابها سيكونون سنده في مناخ صعب، تلوح في أفقه عدّة تحديات، لعل أهمها عسر تشكيل حكومة، بعد أن صعدت إلى البرلمان قوى سياسية ضعيفة، ستعجز حتى ولو اجتمعت عن تشكيل أغلبية مطلقة (109 أصوات). ولذلك قد تكون حملات "حالة وعي" تعبيراً عن رغبة الشباب في أن يكون السند النفسي والأدبي لقيس سعيد، الرئيس الذي "لا يملك حزباً"، غير أن أوساطاً عديدة عملت، بالموازاة مع ذلك، على إشاعة مناخ من الخوف والإحباط، وهي تعلم أن صعود قيس سعيد بهذه النسبة المرتفعة قد يشكل تهديداً لمصالحها، وهو الذي استطاع أن يستعيد مهجة الثورة ومزاجها الصاخب الذي لم تنهكه سنوات الإحباط والخيبة. لقد ساد اعتقاد خاطئ، أن الثورة طُويت صفحتها، وأن النظام القديم عاد ليستقر إلى الأبد، وأن أنصار الثورة ملّوا منها، وانقلبوا عليها، ولكن صعوده، مصحوباً بخروج قوة راديكالية إلى مجلس النواب، من طريق الانتخاب، سفّه كل تلك التوقعات.
تفيد حملات "حالة وعي" بأن ثمّة احتمالاتٍ قد تقلب المعادلة، وتمنح الحاكمين الجدد فرصة أخيرة، لتحقيق تطلعات الشباب، وهو الذي صبر عليهم كثيراً. يعي الفائزون أن ذلك يُحرجهم، وهو يضاعف من المسؤولية الأخلاقية والسياسية التي تقع على عاتقهم مرة أخرى، وقد تكون هذه المرة الأخيرة. استطاعت تونس أن تتجاوز عديد المطبّات التي اعترضت النخب الحاكمة بعد الثورة. وكان ثمن ذلك عودة متبجّحة للنظام القديم، ولكن قد يتاح للفائزين هذه المرة ديموقراطياً تصفية تلك التركة، والحسم فيها، من خلال تلبية الحاجات وجلب الرخاء الاقتصادي والاجتماعي الذي سيتكفل بطرد أشباح الماضي.
مع ذلك، تلقفت مؤسسات وهياكل عديدة في الدولة هذه المبادرات، وانخرطت في تلك الجهود، إذ وضعت وزارة البيئة والجماعات المحلية ووزارة التجهيز وبلديات عديدة معدّاتها ومواردها التقنية والبشرية تحت ذمة هذه المبادرات، للتخفيف من حدة المشكلات التي تراكمت بعد الثورة، في ظل حالة الانفلات السلوكي العام، وضعف رقابة الدولة ومؤسساتها: البناء العشوائي، تراكم النفايات... سلوكات غير مدنيّة، وتصرّفات خلنا أنها انقرضت.
تقدّم هذه المبادرات نسخةً مغايرةً للحركات الاحتجاجية التي عرفتها تونس في السنوات التسع التي تلت الثورة، فقد خرج الشباب فيها محتجّاً على تردّي الخدمات وتراكم الأوساخ وازدياد منسوب العنف، وكانت أصابع الاتهام تتجه، في كل مرة، إلى السلطة السياسية، وتحديداً الحاكمين، حيث حمّلهم الشباب المحتج المسؤولية كاملة عن تلك الظواهر والتجاوزات والإخفاقات التي شوهت البلاد. وهناك من استثمر هذه التحرّكات لصناعة حنين إلى النظام السابق، وكأن كل العيوب والنقائص التي لحقت بتونس كانت بسبب الثورة، حتى بدت البلاد لدى هؤلاء جنة موعودة، يحسدُنا عليها العالم المتقدم، ثم أخرجنا منها محمد البوعزيزي ومن والاه.
اختلفت، هذه المرة، ردود أفعال الشباب، وخير أنه كان مبادراً وإيجابياً، فاتجه يخاطب الضمير
يذهب بعضهم إلى أن هذه المبادرات إذ تسبق تولي الرئيس قيس سعيد تأدية اليمين التي يباشر بمقتضاها رسمياً منصب رئاسة الجمهورية، فكأنها احتفاء به، وتشديد على أنّ أصحابها سيكونون سنده في مناخ صعب، تلوح في أفقه عدّة تحديات، لعل أهمها عسر تشكيل حكومة، بعد أن صعدت إلى البرلمان قوى سياسية ضعيفة، ستعجز حتى ولو اجتمعت عن تشكيل أغلبية مطلقة (109 أصوات). ولذلك قد تكون حملات "حالة وعي" تعبيراً عن رغبة الشباب في أن يكون السند النفسي والأدبي لقيس سعيد، الرئيس الذي "لا يملك حزباً"، غير أن أوساطاً عديدة عملت، بالموازاة مع ذلك، على إشاعة مناخ من الخوف والإحباط، وهي تعلم أن صعود قيس سعيد بهذه النسبة المرتفعة قد يشكل تهديداً لمصالحها، وهو الذي استطاع أن يستعيد مهجة الثورة ومزاجها الصاخب الذي لم تنهكه سنوات الإحباط والخيبة. لقد ساد اعتقاد خاطئ، أن الثورة طُويت صفحتها، وأن النظام القديم عاد ليستقر إلى الأبد، وأن أنصار الثورة ملّوا منها، وانقلبوا عليها، ولكن صعوده، مصحوباً بخروج قوة راديكالية إلى مجلس النواب، من طريق الانتخاب، سفّه كل تلك التوقعات.
تفيد حملات "حالة وعي" بأن ثمّة احتمالاتٍ قد تقلب المعادلة، وتمنح الحاكمين الجدد فرصة أخيرة، لتحقيق تطلعات الشباب، وهو الذي صبر عليهم كثيراً. يعي الفائزون أن ذلك يُحرجهم، وهو يضاعف من المسؤولية الأخلاقية والسياسية التي تقع على عاتقهم مرة أخرى، وقد تكون هذه المرة الأخيرة. استطاعت تونس أن تتجاوز عديد المطبّات التي اعترضت النخب الحاكمة بعد الثورة. وكان ثمن ذلك عودة متبجّحة للنظام القديم، ولكن قد يتاح للفائزين هذه المرة ديموقراطياً تصفية تلك التركة، والحسم فيها، من خلال تلبية الحاجات وجلب الرخاء الاقتصادي والاجتماعي الذي سيتكفل بطرد أشباح الماضي.