تونس.. الشهداء أرواح هائمة في ذكرى الثورة
يتذكر التونسيون بكثير من الدهشة والتعجب تصريحا لواحدة من نواب المجلس التأسيسي، قبل أكثر من عامين، تدعو فيه إلى ضرورة بناء دار للشهداء تكون فضاء يلتقون فيه. هل كان ذلك مجرد فلتان لغوي أو ذهني، أم أن الأمر كان نبوءة لم نفطن إليها، توحي بما سيؤول إليه أمر الشهداء، وقد ضاقت بهم السماء بما رحبت؟ تلك أحجية ما زال بعضهم يسعى إلى حلها. منحنا التاريخ ثروة على قدر خيالنا وصبرنا، فماذا كنا نفعل بشهدائنا وجرحانا، لو كانت الكلفة البشرية مقارنة بغيرنا أعلى؟ ومع ذلك، فإن ما يزيد عن 300 شهيد، نستكثر تكريمهم في عيد الثورة، من دون ذكر الجرحى.
أعلم أن الملف معقّد، وفيه جوانب فنية وتقنية تتعلق بالمقاييس والملابسات التي عطلت، وما زالت، ضبط قائمة هؤلاء. وأدرك، أيضاً، أن الإدارة العميقة واستئساد جيوب في وزارات ذات صلة مباشرة بهذا الملف، على غرار الداخلية والدفاع والعدل والصحة، حالت دون معرفة الحقيقة، بل تم تبرئة متهمين عديدين في الربيع الفارط، فخرجوا يتبجحون ويتحرشون بعائلات الشهداء والجرحى. تشاطرنا في هذا التقييم منظمات عدة، أهمها منظمة هيومن رايتس التي نبهت، في جديد تقاريرها، الشهر الماضي، إلى أن غياب الإرادة السياسية يعطل معرفة الحقيقة، فضلا عن إنصافهم.
ولكن، وقد عجزت حكومات ما بعد الثورة عن فض جميع تلك الإشكاليات، فإنها حفظت لهم مقامهم الأدبي، ولم تتردد في ترديد مشاعر العرفان والامتنان لتلك الأرواح التي أزهقت، والدماء التي سالت، حتى تكون تونس بلا استبداد. عبرت الحكومات المتتالية عن هذا في أكثر من مناسبة، وحاولت أن تتدارك جوانب التقصير، بل بعض التجاوزات التي لحقت بهم. غير أن ما حدث يوم الأربعاء 14 يناير/كانون الثاني الجاري، في قصر الرئاسة بقرطاج، بمناسبة الذكرى الرابعة للثورة، لم يكن في اعتقادنا خطأ من قبيل هذا، بل كان خطيئة بالمعنى السياسي، لأنه غصب للذاكرة، وتشريد لأرواح الشهداء.
يصر السيد رئيس الجمهورية على تقديم روايته الشخصية/ الرسمية للثورة التي تفيد بأن ما "يسمى الثورة" ليس في النهاية سوى "عمل نزق"، وهي طيش ومغامرة. لاحظنا، مرات عديدة، أنه يتجنب ذكر لفظ الثورة، ولا يأتيه لسانه إلا مكرهاً أو مجاملاً، أو حين تضيق به العبارة، ولا يجد عن ذلك محيداً. ذاكرة سيادته ثبتت عند شهداء النضال الوطني.
فقراءة السيد الرئيس قراءة جيل بأكمله، لا يعرف من الثورة إلا ثورات التحرر الوطني، كما عاشتها البلدان المستعمرة خلال الخمسينيات من القرن الفارط، وهم يقرّون، أيضاً، بأن الشهداء "الحقيقيين"، بل وربما الوحيدين، هم من استشهدوا في تلك المعارك. تطمس الذاكرة ولربما الإدراك معارك وطنية أخرى، لا تقل نبلاً عن معارك التحرر الوطني، خاضها مناضلون من صنف آخر، فيهم من استشهد وفيهم من لا يزال حياً. هذه معارك لا يدركها السيد الرئيس ولا يقيم لها وزناً. هذا الجيل من مؤسسي الدولة الوطنية يؤمنون بـ"نهاية التاريخ"، ويعتقدون أن منتهى النضال الوطني وتمامه وطن مستقل فحسب. ينسى هؤلاء، بتماميتهم تلك، أن دولاً عديدة استقلت، لكنها ارتكبت في حق مواطنيها ما لم يرتكبه المستعمر. حدث هذا في بلدان عديدة، ولم تكن بلادنا استثناء. والغريب أن هؤلاء ما زالوا يطلقون على منتسبي أحزاب الاستقلال لفظ مناضلين، حتى لو كانوا من صنف الجلادين وأعداء الحرية.
القراءة الماكرة نفسها لتاريخ الشهداء تقفز على سنوات النضال الديمقراطي الذي مات فيه وجرح فيه مواطنون كثر، فهؤلاء ليسوا شهداء عند السيد الرئيس، وهو الذي صرح، مرة، في أحد حواراته الإذاعية، إبّان ذروة حملته الانتخابية بأن "الشهداء الحقيقيين ثلاثة"، أما الآخرون، وبحركة جسدية نزقة فاجأت الجميع، اعتبرهم "حكاية فارغة".
لم يكن ما حدث في الذكرى الرابعة للثورة مجرد خطأ بروتوكولي، أو سوء تقدير، فعائلات الشهداء الذين أجلسوا في زوايا آخر القاعة في القصر الرئاسي، فضلاً عن عدم توسيمهم في ذكراهم، كان أمراً ناجما عن القراءة نفسها، وهي قراءة لا تنطق عن مجاز خاص بالسيد الرئيس، بل تريد أن تقدم الرواية الرسمية للثورة. أعتقد أن ذلك كان بروفة بسيطة في إلقاء الدرس الافتتاحي في هذه المادة.
لم تتوقف أخطاء الدرس الافتتاحي في مادة طمس الشهداء وتزوير الذاكرة عند هذا الحد، بل تجاوزته لتكريم من لم تكن لهم علاقة مباشرة بذكرى الثورة. تكريم الرباعي الراعي للحوار ممكن، ولكن خارج هذا الإطار بالذات، كان هذا الخطأ من قبيل الحشو البيداغوجي، أو من قبيل الخروج عن النص... ثمّة حرص خفي على التشفي من بياض نص الثورة والشهداء، ولم يكن هذا متأتيا إلا بحشر مبادرات من ذلك النوع، وحشو مفردات لا علاقة لها بالسياق، أصلاً، طمعاً في تعويم الدلالة. وإمعانا في تلك الأخطاء، يعمد السيد الرئيس إلى تصنيف الشهداء إلى مراتب، والتمييز بينهم: شهداء صنف ذهبي هم شهداء سياسيون من ضحايا الإرهاب والعنف، وصنف ما دون هم شهداء الثورة. وهكذا يتم اغتيال الشهداء ثانيةً في عيد ثورتهم. هل كانت هناك رغبة في الإيقاع بين الشهداء؟
كان الأمر في اعتقادي ممنهجاً، وهو محاولة لإعادة تقديم رواية للثورة التونسية، تسحب منها شحنتها الرمزية.
الرغبة في طمس خصوصية أولئك الشهداء، واعتبارهم "أفا"، لا يمكن إلا أن تثير تلك العاصفة من الغضب. كل التبريرات التي سمعناها فيما بعد لا معنى لها، بل إنها سكبت مزيداً من الزيت على الحريق. سوء تقدير واستهانة، لا يمكن أن تجعل الأمر مجرد "مقاربة جريئة"، كان لابد من اتخاذها، على حد قول المكلف بالإعلام لدى رئاسة الجمهورية. لا نستغرب شيئاً، فالدوائر المقربة للسيد الرئيس لا قرابة تصلها بالثورة، حتى لو كان الأمر مجرد عواطف. كان بعضهم سفراء بن علي، حين كان الشهداء يتساقطون. من ينتظر العدالة الانتقالية إنصافاً للشهداء ربما هم واهمون. بالممحاة ذاتها سيسعى بعضهم إلى طمس هذا الملف أيضاً.