18 نوفمبر 2024
تونس.. الديموقراطية على المحكّ مجدّداً
أصبحت بعض التوقعات والإشاعات التي سرت في تونس، في الأسبوعين الماضيين، أقرب إلى التحقق، وتحديدا التي تعلقت بإمكانية تأجيل الانتخابات التشريعية المقررة في أكتوبر/تشرين الأول المقبل، والرئاسية في نوفمبر/تشرين الثاني، فالفصل الوحيد الذي جاء صريحا وواضحا في الدستور يشترط "الخطر الداهم" سببا وحيدا لتأجيل الانتخابات. ولكن يبدو أن الإمكانات النظرية لتأجيلها أكثر مما ورد في الدستور، فهناك حالات عديدة ممكنة. ربما استمع المشرّعون آنذاك إلى نصيحة الإمام مالك، حين قال "دعها حتى تقع"، لاجماً ترف الفقه المفترض آنذاك، فها هي احتمالات عديدة تكاد تقع، لم ترد في الدستور، ومن شأنها أن تؤجل الانتخابات.
للتونسيين ذاكرة موجوعة مع أيام الخميس، حتى سمّي الخميس الأسود من شدّته عليهم، فقد حدثت فيه جل النوائب الكبرى التي عرفتها البلاد بعد الاستقلال، منها خميس الإضراب العام سنة 1978 الذي سقط فيه مئات النقابيين وغيرهم، و"خميسات" أخرى لا تقل عنه بأسا وضراوة. وانضافت إلى هذا الخميس عمليات انتحارية تزامنت يوم الخميس الماضي (27 يونيو/حزيران). كانت الخسائر طفيفة نسبيا، فباستثناء استشهاد عون أمن وجرح بعض المارّة، لم يسجل ضحايا آخرون في مدينةٍ تشهد أوج نشاطها في توقيت ما وقع.
عرفت تونس، في الأسابيع الماضية، حراكا سياسيا غير مشهود، لعل أبرز مؤشراته التنقيحات التي أدخلها النواب على القانون الانتخابي، هدفها الحيلولة دون استثمار العمل الجمعوي،
الخيري منه تحديدا، للدخول إلى الحقل التنافسي السياسي، خصوصا وقد تنامت، في الأشهر الأخيرة، أشكال توظيف العمل الخيري لإيجاد أساليب متنوعة من الزبونية السياسية، في تحايل على الديموقراطية والمواطن أولا. وما إن مر القانون، حتى تسرّبت إشاعات عن حالة صحة رئيس الجمهورية، الباجي السبسي، ما جعل التعديلات تلك محل شك، خصوصا أن الرئيس مطالب دستوريا بالنظر فيها، والموافقة عليها أو رفضها، كما أن الواجبات الدستورية نفسها تُلزمه بإصدار دعوة إلى الناخبين، تصدر في الجريدة الرسمية، حتى يتم رسميا إقرار يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول المقبل يوما للانتخاب، وهو ما يمكّن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات من البدء عمليا في تجسيد خطوات المسار الانتخابي، وبذلك يبلغ منعطفه الحاسم والأخير.
روجت منابر إعلامية محلية احتمال تأجيل الانتخابات، حتى بات الأمر منتظرا لدى فئات واسعة، وقد تكون تلك أمنية بعضهم: إرباك المسار الانتخابي، وربما الإجهاز عليه من خلال إقحام البلاد في مساراتٍ غير دستورية، مفتوحة على كل الإمكانات، وقد يحقق بعضها الآخر أمانيه تلك، لتحسين رصيده الانتخابي، في ظل انتشار نتائج سبر (استطلاع) آراء محبطة لبعضهم. وقد يكون التأجيل أيضا فرصة نادرة للملتحقين بركب المتنافسين على كراسي السلطة التشريعية أو التنفيذية من خارج الحقل السياسي، للتأقلم مع الوضعيات الجديدة بعد أن غادروا خيمات العمل الخيري.. إلخ.
ها هي المصادفات الغريبة والتزامن المريب يقتربان من تحقيق أعراض هؤلاء جميعا. يبدو أن مرض الرئيس الذي غذّته إشاعات عديدة، وصلت إلى إعلان قنوات عربية وغربية وفاته، علاوة على أن عمليات التفجير المتزامنة في العاصمة التونسية صبّت في هذا الاحتمال. وبقطع النظر عن مآلات أمر مرض الرئيس، فإن تأجيل الانتخابات أصبح واردا، خصوصا إذا كان للرئيس موقف معارض للتعديلات، أو إذا اعترضت عليها الهيئة المؤقتة للنظر في دستورية القوانين (في غياب المحكمة الدستورية)، غير أن التونسيين لا يخشون هذه الاحتمالات جميعا، فالدستور نظر في بعض الحالات المحتملة، كما أن تجاربهم العديدة، وخبرتهم في إدارة الأزمات الحادة، حتى ولو في غياب دستور، مثلما كان أمر الحوار الوطني سنة 2013، وغيرها من مناسباتٍ أخرى عديدة، ترجح إمكانات الخروج من هذه الحالة العسيرة. يقف الجيش التونسي على مسافةٍ من جميع الفرقاء السياسيين، وهو غير معني بأن يكون وصيا على مستقبل الديموقراطية، إلا فيما تعلق بأمن تونس ومناعتها.
بعيدا عن مناقشة صلابة نظرية المؤامرة أو خوائها، فإن التجربة الفتية لهذه الديموقراطية في
مناخٍ عربيٍّ غير متعاطف مع الديموقراطية، بل ينظر إليها بكثيرٍ من الريبة والحذر، تدفع قوى إقليمية عديدة إلى إفشال هذه التجربة. يبدو أن تناول القنوات الإعلامية، ذات الصلة بأنظمة خليجية تحديدا، خبري صحة الرئيس والعمليات الانتحارية عكس هذه المواقف. لقد صور بعضهم يوم الخميس هذا كأنه يوم تكفين الديموقراطية في تونس، مع ما سيصاحب ذلك من خراب ودمار. لم يحدث شيء من ذلك، ولم تخل شوارع العاصمة ولو لحظة من الحركة والاندفاع والرغبة في التجول. كانت تونس تودع شهيدها بالزغاريد، مع زغاريد أخرى كانت تطلق اليوم نفسه على مئات الآلاف من أبنائها، وهم يتخطون بامتياز امتحانات المدرسة.
شيء ما ظلّ يشد التونسيين إلى تجربتهم الفريدة، على الرغم من كل خيباتها وإخفاقاتها، الحرية ولا شيء غيرها، أهدتها الثورة إلى مناصريها وحتى أعدائها من دون تمييز.. هم مستعدون للموت جميعا، من أجل أن تظل الحرية هبة لمن يليهم من ذريتهم، لهذا قد تتأجل الانتخابات، وقد تحدث فراغاتٌ دستوريةٌ غير متوقعة، وقد يرتبك المسار الانتخابي برمته ويتعثر، ولكن لن يعودوا إلى الوراء خطوة واحدة. طريق الحرية يبدو أمامهم طويلا، ولكن الكل يحث السير إلى أفق أفضل مما مضى.
للتونسيين ذاكرة موجوعة مع أيام الخميس، حتى سمّي الخميس الأسود من شدّته عليهم، فقد حدثت فيه جل النوائب الكبرى التي عرفتها البلاد بعد الاستقلال، منها خميس الإضراب العام سنة 1978 الذي سقط فيه مئات النقابيين وغيرهم، و"خميسات" أخرى لا تقل عنه بأسا وضراوة. وانضافت إلى هذا الخميس عمليات انتحارية تزامنت يوم الخميس الماضي (27 يونيو/حزيران). كانت الخسائر طفيفة نسبيا، فباستثناء استشهاد عون أمن وجرح بعض المارّة، لم يسجل ضحايا آخرون في مدينةٍ تشهد أوج نشاطها في توقيت ما وقع.
عرفت تونس، في الأسابيع الماضية، حراكا سياسيا غير مشهود، لعل أبرز مؤشراته التنقيحات التي أدخلها النواب على القانون الانتخابي، هدفها الحيلولة دون استثمار العمل الجمعوي،
روجت منابر إعلامية محلية احتمال تأجيل الانتخابات، حتى بات الأمر منتظرا لدى فئات واسعة، وقد تكون تلك أمنية بعضهم: إرباك المسار الانتخابي، وربما الإجهاز عليه من خلال إقحام البلاد في مساراتٍ غير دستورية، مفتوحة على كل الإمكانات، وقد يحقق بعضها الآخر أمانيه تلك، لتحسين رصيده الانتخابي، في ظل انتشار نتائج سبر (استطلاع) آراء محبطة لبعضهم. وقد يكون التأجيل أيضا فرصة نادرة للملتحقين بركب المتنافسين على كراسي السلطة التشريعية أو التنفيذية من خارج الحقل السياسي، للتأقلم مع الوضعيات الجديدة بعد أن غادروا خيمات العمل الخيري.. إلخ.
ها هي المصادفات الغريبة والتزامن المريب يقتربان من تحقيق أعراض هؤلاء جميعا. يبدو أن مرض الرئيس الذي غذّته إشاعات عديدة، وصلت إلى إعلان قنوات عربية وغربية وفاته، علاوة على أن عمليات التفجير المتزامنة في العاصمة التونسية صبّت في هذا الاحتمال. وبقطع النظر عن مآلات أمر مرض الرئيس، فإن تأجيل الانتخابات أصبح واردا، خصوصا إذا كان للرئيس موقف معارض للتعديلات، أو إذا اعترضت عليها الهيئة المؤقتة للنظر في دستورية القوانين (في غياب المحكمة الدستورية)، غير أن التونسيين لا يخشون هذه الاحتمالات جميعا، فالدستور نظر في بعض الحالات المحتملة، كما أن تجاربهم العديدة، وخبرتهم في إدارة الأزمات الحادة، حتى ولو في غياب دستور، مثلما كان أمر الحوار الوطني سنة 2013، وغيرها من مناسباتٍ أخرى عديدة، ترجح إمكانات الخروج من هذه الحالة العسيرة. يقف الجيش التونسي على مسافةٍ من جميع الفرقاء السياسيين، وهو غير معني بأن يكون وصيا على مستقبل الديموقراطية، إلا فيما تعلق بأمن تونس ومناعتها.
بعيدا عن مناقشة صلابة نظرية المؤامرة أو خوائها، فإن التجربة الفتية لهذه الديموقراطية في
شيء ما ظلّ يشد التونسيين إلى تجربتهم الفريدة، على الرغم من كل خيباتها وإخفاقاتها، الحرية ولا شيء غيرها، أهدتها الثورة إلى مناصريها وحتى أعدائها من دون تمييز.. هم مستعدون للموت جميعا، من أجل أن تظل الحرية هبة لمن يليهم من ذريتهم، لهذا قد تتأجل الانتخابات، وقد تحدث فراغاتٌ دستوريةٌ غير متوقعة، وقد يرتبك المسار الانتخابي برمته ويتعثر، ولكن لن يعودوا إلى الوراء خطوة واحدة. طريق الحرية يبدو أمامهم طويلا، ولكن الكل يحث السير إلى أفق أفضل مما مضى.