01 نوفمبر 2024
تونس.. الاستثمار السياسي في الموت
باتت السياسة في تونس، بما هي أداة للمنفعة والمكاسب، تشكل سلوكاً استثمارياً لتحقيق الغلبة السياسية، وتسجيل النقاط بين الفرقاء والغرماء السياسيين، حتى استوى فيها المقدّس بالمدنس، ولم تعد للحرمات معنى يذكر. علاقة السياسة بالموت قديمة ومستحدثة في آن واحد، فكثير من حوادث الموت الطبيعية والمسترابة شكلت مدخلاً إلى الحكم، أو لإعادة توزيع السلطة وتجديدها وانبعاث سلالات حاكمة وانهيار أخرى، وانطلاق دول وحكومات وضمور مثيلات لها. ليست هذه المقالة بصدد استعراض الموروث الكبير والثقيل لعلاقة الموت بالسياسة والسياسيين، وسبل استثمارها، لكن الظاهرة باتت لافتة في تونس، ما يستدعي الإثارة والتفكير والإنارة والتجريح والتوضيح، وحتى وضع المقاربات التفسيرية، ذلك أن كثيراً من حوادث الموت والقتل والاغتيالات الآثمة كانت دائماً تساعد على إعادة تنظيم السلطة ودينامياتها المتجدّدة التي تأبى الأفول، كما بين صاحب هذه السطور ذلك في نص أكاديمي مطول نُشر في الكتاب المرجعي "العنف والسياسة في المجتمعات العربية المعاصرة"، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
ويتضمن الموروث التونسي في جدلية الموت والسياسة علامات بارزة وفارقة في الوقت نفسه، من أهمها في التاريخ المعاصر اغتيال الزعيم النقابي ومؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل، فرحات حشاد، على أيدي "اليد الحمراء" بالتواطؤ مع الحكومة الفرنسية في 5 ديسمبر/ كانون الأول 1952 إخماداً لصوته، وإنهاء لدوره في الحركة الوطنية، بعد أن تحول إلى أحد أبرز زعمائها، وقطعاً للطريق الذي فتحه على المستوى الدولي، بعد زيارته سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة سنة 1951، ما كان سيؤدي إلى إعادة النظر في وضع تونس المستعمرة الفرنسية آنذاك. حدث القتل السياسي لزعيم نقابي وطني، حوله الاتحاد العام التونسي للشغل وكل نقاباته الوطنية والجهوية والمحلية إلى احتفالية سنوية، تقام فيها المظاهرات الحاشدة والاجتماعات العامة والخطب العصماء تستمد منها شرعية، تفتقدها منظمات وحركات اجتماعية مشابهة.
ويعد اغتيال الزعيم الوطني، صالح بن يوسف، في 11 أغسطس/ آب 1961، وتصفية عدد
كبير من أنصاره، الأمر الذي قام به الرئيس الأسبق، الحبيب بورقيبة، باعترافه بذلك في إحدى محاضراته الدورية في معهد الصحافة وعلوم الأخبار سنة 1973، بعد تكريمه القتلة، يعد مثالاً آخر دالاً على استخدام الموت وسيلة لتصفية الخصوم السياسيين والصعود على عرش السلطة من دون صعاب وقلاقل واضطرابات، تعج بها عوالم السياسة التونسية والأجنبية. أما اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي إبّان حكم الترويكا في تونس 2011 - 2013، فهو نموذج يستحق التأمل والدراسة، لطبيعته المفارقة، وتناقضه مع ما هو سائد من قتل سياسي، غرضه تحقيق مكاسب ومغانم سياسية وسلطوية بين أعداء سياسيين بلغ الاختلاف والصراع بينهم حداً لا يقبل بقاء أحدهم على قيد الحياة. فقد تولى عمليتي الاغتيال تنظيم أنصار الشريعة "الإسلامي"، لإنهاء حكم حركة النهضة "الإسلامية"، ما يعني أن الإسلاميين الذين جمعتهم العقيدة والسجون والمعتقلات والمنافي زمن الرئيس الأسبق، بن علي، تحولوا إلى أبرز مستخدمي الموت وسيلةً في التغيير السياسي، وتصفية أول تجربة إسلامية في الحكم، عرفتها تونس في تاريخها الحديث والمعاصر، تطبيقاً لنظرية إنهاك الدولة، ومقدمة للاستيلاء عليها وتأسيس الإمارة الإسلامية بديلاً عنها التي يتبناها أنصار الشريعة والتنظيمات الداعشية.
طفت علاقة السياسة بالموت على السطح في تونس في الأيام القليلة الفارطة عند حضور الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، لتعزية عائلة مصمم الأزياء العالمي، عز الدين علية، يوم 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري في منطقة سيدي بوسعيد في أحواز تونس الشمالية، تيمناً بكبار مصممي الأزياء والفنانين الذين حضروا من كبرى عواصم العالم لتشييع الفقيد، وتسويقاً لتونس أخرى، تعطي قيمة لشرائح تهتم بها المجتمعات الغربية وأسواقها الاتصالية أيما اهتمام. ولم تلق الحركة الرمزية التي قام بها الرئيس التونسي استحسان شرائح كبيرة من الطبقات الشعبية والجمهور الواسع الناشط في الفضاء الافتراضي الذي يستخدم "فيسبوك" وسيلة للتعبير وأداة للسخط أو الرضى عن هذا السلوك السياسي أو ذاك. فقد برزت المقارنات بين هذا الموقف الذي عُدّ تقرباً من الغرب ودوله الكبرى، ورد فعل رئيس الدولة السلبي تجاه حادثة اصطدام خافرة عسكرية بمركب للمهاجرين التونسيين غير الشرعيين، أميالاً من جزيرة قرقنة في المياه الدولية، ما أدى إلى وفاة عشرات الشبان التونسيين. لم يكلف رئيس الدولة نفسه تعزية عائلاتهم، أو الانتقال إليهم في مواطنهم في المدن الداخلية الفقيرة في ولايات سيدي بوزيد وصفاقس وقابس، أين تعالت أصوات البكاء والنحيب والاحتجاجات الجماعية التي أدت إلى غلق الشوارع، وتعطيل المرافق العامة ومؤسسات الدولة، فموت هؤلاء العشرات من أبناء الطبقات الشعبية والفقراء الذين يبحثون عن الخلاص الأبدي في أوروبا لا يحظى بالمكانة نفسها التي حظي بها المصمم العالمي، والتحول إلى تعزية أسرهم لا يجلب المنافع نفسها، ولا الرأسمال الرمزي نفسه، الأمر الذي استثمرت فيه أحزاب سياسية معارضة وحركات اجتماعية ونقابية تحول زعماؤها إلى تعزية عائلات الغرقى والمفقودين، وتأييد الحركات الاحتجاجية التي تُحمّل المؤسسة العسكرية مسؤولية موت عشرات الحرّاقة (المهاجرين غير الشرعيين)، والمناوئة لموقف الرئيس والمنددة به.
وعلى خلاف الطريقة التي تفاعل بها رئيس الجمهورية مع الحادثة الأليمة التي تستدعي تنكيس الراية الوطنية وإعلان الحداد العام، حسب نشطاء كثيرين في المجتمع المدني، سارع رئيس
الحكومة إلى موطن معتمد مطماطة، محسن بنعاسي، في جهة قفصة، الذي بقي تحت ركام الأوحال عشرة أيام بعد أن جرفته مياه الفيضانات التي شهدها الجنوب الشرقي التونسي، سارع للقيام بواجب التعزية في اليوم نفسه الذي جاء فيه إلى مجلس نواب الشعب لتقديم ميزانية الدولة وقانون المالية لسنة 2018، الأمر الذي أخّر الجلسة العامة البرلمانية ثلاث ساعات. لم يقرأ مفككو الرموز السياسية والعارفون بالصراعات التي تشق مراكز القوة والقرار في الدولة التونسية زيارة التعزية التي قام بها رئيس الحكومة سلوكاً عفوياً بريئاً واستجابة للأعراف المعمول بها في مثل هذه المناسبات الأليمة، وإنما رأوا فيه عملاً مكّنه من تسجيل نقاط على حساب رئيس الدولة، وهما اللذان تدور بينهما معركة خفية، لكنها حامية الوطيس، الغاية منها إثبات النفوذ وانتزاع الصلاحيات والاستعداد للانتخابات الرئاسية سنة 2019.
رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، على دراية بأهمية استغلال الفرص، بما في ذلك الأليمة منها، مثل الموت لإثبات شرعيته وتكريس سلطانه، ومفعولها العكسي على استمراريته في رأس السلطة التنفيذية، الأمر الذي جعله يتحرّك بسرعة فائقة، للقبض على مروجي إشاعة وفاته التي نُسبت إلى قناة فرنسا 24 وتبرأت منها، بعد أن تبين أنها خبر مفبرك، فقد تحركّت أجهزة الدولة الأمنية، وتمكنت في وقت قياسي من القبض على مرتكبي هذا الفعل، المنتسبين إلى أحد أحزاب المعارضة الراديكالية الذي من شأنه أن يحدث الفوضى في هرم الدولة، بعد أن أخذته المؤسسات الإعلامية مأخذ الجد، وبدأت تروّجه دولياً على أرضية تقدّم سن الرئيس ومرضه. وهو مثال صارخٌ عن الاستخدام المضاد للموت في السياسة، حقيقية كانت أو وهمية، وما قد تفضي إليه من تهرئةٍ، يمكن أن تخلق الفراغ في رأس السلطة الذي يتطلب التدخل، لسدّه بالوسائل الشرعية والقانونية، مثل الانتخابات، أو بغيرها عندما تتدخل الأجهزة العميقة والاستخباراتية لحسم الموقف، فإشاعاتٌ كثيرة تحولت إلى أمر واقع، وغيّرت معادلات سياسية شائكة وصعبة.
ويتضمن الموروث التونسي في جدلية الموت والسياسة علامات بارزة وفارقة في الوقت نفسه، من أهمها في التاريخ المعاصر اغتيال الزعيم النقابي ومؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل، فرحات حشاد، على أيدي "اليد الحمراء" بالتواطؤ مع الحكومة الفرنسية في 5 ديسمبر/ كانون الأول 1952 إخماداً لصوته، وإنهاء لدوره في الحركة الوطنية، بعد أن تحول إلى أحد أبرز زعمائها، وقطعاً للطريق الذي فتحه على المستوى الدولي، بعد زيارته سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة سنة 1951، ما كان سيؤدي إلى إعادة النظر في وضع تونس المستعمرة الفرنسية آنذاك. حدث القتل السياسي لزعيم نقابي وطني، حوله الاتحاد العام التونسي للشغل وكل نقاباته الوطنية والجهوية والمحلية إلى احتفالية سنوية، تقام فيها المظاهرات الحاشدة والاجتماعات العامة والخطب العصماء تستمد منها شرعية، تفتقدها منظمات وحركات اجتماعية مشابهة.
ويعد اغتيال الزعيم الوطني، صالح بن يوسف، في 11 أغسطس/ آب 1961، وتصفية عدد
طفت علاقة السياسة بالموت على السطح في تونس في الأيام القليلة الفارطة عند حضور الرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، لتعزية عائلة مصمم الأزياء العالمي، عز الدين علية، يوم 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري في منطقة سيدي بوسعيد في أحواز تونس الشمالية، تيمناً بكبار مصممي الأزياء والفنانين الذين حضروا من كبرى عواصم العالم لتشييع الفقيد، وتسويقاً لتونس أخرى، تعطي قيمة لشرائح تهتم بها المجتمعات الغربية وأسواقها الاتصالية أيما اهتمام. ولم تلق الحركة الرمزية التي قام بها الرئيس التونسي استحسان شرائح كبيرة من الطبقات الشعبية والجمهور الواسع الناشط في الفضاء الافتراضي الذي يستخدم "فيسبوك" وسيلة للتعبير وأداة للسخط أو الرضى عن هذا السلوك السياسي أو ذاك. فقد برزت المقارنات بين هذا الموقف الذي عُدّ تقرباً من الغرب ودوله الكبرى، ورد فعل رئيس الدولة السلبي تجاه حادثة اصطدام خافرة عسكرية بمركب للمهاجرين التونسيين غير الشرعيين، أميالاً من جزيرة قرقنة في المياه الدولية، ما أدى إلى وفاة عشرات الشبان التونسيين. لم يكلف رئيس الدولة نفسه تعزية عائلاتهم، أو الانتقال إليهم في مواطنهم في المدن الداخلية الفقيرة في ولايات سيدي بوزيد وصفاقس وقابس، أين تعالت أصوات البكاء والنحيب والاحتجاجات الجماعية التي أدت إلى غلق الشوارع، وتعطيل المرافق العامة ومؤسسات الدولة، فموت هؤلاء العشرات من أبناء الطبقات الشعبية والفقراء الذين يبحثون عن الخلاص الأبدي في أوروبا لا يحظى بالمكانة نفسها التي حظي بها المصمم العالمي، والتحول إلى تعزية أسرهم لا يجلب المنافع نفسها، ولا الرأسمال الرمزي نفسه، الأمر الذي استثمرت فيه أحزاب سياسية معارضة وحركات اجتماعية ونقابية تحول زعماؤها إلى تعزية عائلات الغرقى والمفقودين، وتأييد الحركات الاحتجاجية التي تُحمّل المؤسسة العسكرية مسؤولية موت عشرات الحرّاقة (المهاجرين غير الشرعيين)، والمناوئة لموقف الرئيس والمنددة به.
وعلى خلاف الطريقة التي تفاعل بها رئيس الجمهورية مع الحادثة الأليمة التي تستدعي تنكيس الراية الوطنية وإعلان الحداد العام، حسب نشطاء كثيرين في المجتمع المدني، سارع رئيس
رئيس الجمهورية، الباجي قائد السبسي، على دراية بأهمية استغلال الفرص، بما في ذلك الأليمة منها، مثل الموت لإثبات شرعيته وتكريس سلطانه، ومفعولها العكسي على استمراريته في رأس السلطة التنفيذية، الأمر الذي جعله يتحرّك بسرعة فائقة، للقبض على مروجي إشاعة وفاته التي نُسبت إلى قناة فرنسا 24 وتبرأت منها، بعد أن تبين أنها خبر مفبرك، فقد تحركّت أجهزة الدولة الأمنية، وتمكنت في وقت قياسي من القبض على مرتكبي هذا الفعل، المنتسبين إلى أحد أحزاب المعارضة الراديكالية الذي من شأنه أن يحدث الفوضى في هرم الدولة، بعد أن أخذته المؤسسات الإعلامية مأخذ الجد، وبدأت تروّجه دولياً على أرضية تقدّم سن الرئيس ومرضه. وهو مثال صارخٌ عن الاستخدام المضاد للموت في السياسة، حقيقية كانت أو وهمية، وما قد تفضي إليه من تهرئةٍ، يمكن أن تخلق الفراغ في رأس السلطة الذي يتطلب التدخل، لسدّه بالوسائل الشرعية والقانونية، مثل الانتخابات، أو بغيرها عندما تتدخل الأجهزة العميقة والاستخباراتية لحسم الموقف، فإشاعاتٌ كثيرة تحولت إلى أمر واقع، وغيّرت معادلات سياسية شائكة وصعبة.