توسل النص الديني.. الصهيونية والحركات "الجهادية"

03 يوليو 2018
+ الخط -
كتب لي صديق عزيز يسأل: لمَ تقحم الثقافة والدين في كل شيء؟ استمعت إليك تتحدث عن توسل مجرمي الصهيونية ومنظريها والحركات الجهادية وفقهائها، الدين والثقافة، لإثبات الشرعية التاريخية وممارساتهم الإجرامية التي لم تتوقف يوما.
... تلك هي قناعاتي، وقد تحدثت عنها وكتبتها مرارا، وهنا مرة أخرى هذه المقدمات الخاصة بهذا الموضوع الأكثر من جاد: أقيمت يوم الثاني من أبريل/ نيسان 2017، في إحدى قواعد سلاح الجو الإسرائيلي على الأرض العربية المسلوبة، مراسم إدخال منظومة الدفاع المضادة للصواريخ متوسطة وبعيدة المدى إلى الخدمة العملانية، وقد أطلق عليها الصهاينة "العصا السحرية". ومما جاء في كلمة رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في المناسبة، أن هذه المنظومة ستسمى "مقلاع داود"، موضحا أن "من يهدّد وجودنا يعرّض نفسه إلى خطر وجودي"، وأضاف أن هذا الموقف يستند إلى جذور قديمة و(مرج هائيلا)، حيث تغلب الملك داود على جوليات بواسطة المقلاع، ليس بعيدا عن القاعدة الجوية... وقد دافع الملك داود عن اليهود من أعدائهم قبل 3000 عام، وقام بذلك بشجاعةٍ غير عاديةٍ، وقدرة غير مألوفة على الاختراع". ويضيف نتنياهو "... بصفتنا شعبا قديما يحب الحياة، نواصل المشي على درب الملك داود، حربته في يدنا، ومقلاعه في سمائنا ونجمة داود مرسومة على علمنا، وهكذا نضيف القوة إلى الروح".
الشعب القديم الذي يحب الحياة، كما يقول نتنياهو، والذي لا يرى مانعا في حرمان أبناء شعب آخر من أسباب الحياة، بعد أن استولى على أرض هذا الشعب، وشرّده عبر هجرات متتالية إلى أرض الضياع والشتات... هذا الشعب المحب للحياة يحتفل سنويا مدة أسبوع بعيد الصفح اليهودي، إحياء لذكرى "خروج بني إسرائيل من مصر الفرعونية بقيادة النبيّ موسى". ويذكر الكاتب أنطوان شلحت إن وسائل الإعلام الصهيونية تعج، في هذه المناسبة، بمقالات وتحليلات، لا سيما دلالة الخروج من "بيت العبودية"، كما ورد في سفر الخروج "وقال موسى للشعب اذكروا هذا اليوم الذي خرجتم من مصر من بيت العبودية، فإنه بيد قوية أخرجكم الرب من هنا".

وفي تلاحم بين الديني والثقافي، في تأكيد شرعية الكيان الصهيوني ومرجعيته العرقية اليهودية، يُشار إلى أعمال الكاتب والفيلسوف الصهيوني الأميركي، مايكل فولتسر، وجهوده، وخصوصا كتابه الصادر سنة 1993 "الخروج من مصر كثورة"، وكتابه "ظل الله.. السياسة في التوراة"، ذلك أن مجموعة هذا الرجل، الصهيوني حد النخاع، المقيمة في أميركا، تتحرّك منذ سنوات بكل الاتجاهات ضد حملة مقاطعة إسرائيل، متوسّلين بالنص الديني، كما يوصف في سفر الخروج التوراتي، معتبرين الخروج من مصر "برنامجا ثوريا وقاعدة سياسية للانعتاق من المعاناة والعبودية والقمع، المعادلة حديثا لفكرة الخلاص والتحرر والثورة".
ويذهب فولستر، وجماعته، إلى أبعد من ذلك، فإقامة إسرائيل، حسب زعمهم، "نسخة معاصرة من خروج مصر، فضلا عن أنه، بعد مئات السنين التي لم يتح فيها لليهود في شتى أصقاع العالم، إمكان العمل طبقا لنموذج هذا الخروج، ظهرت الحركة الصهيونية، ووفرت لهم هذه الفرصة وبالتالي، يوجب هذا الأمر وحده إدراج الصهيونية ضمن نضالات التحرّر البطولية التي شهدها العصر الحديث". كما أن المؤرخ اليهودي، كوفري إيلاني، وإن يختلف قليلا عن بعض زملائه، يرى أن سلسلة سفر يشوع لا تزال تشكل نموذجا يحتذى للمستوطنين في مناطق 1967، ناهيك عن أنها كانت بمثابة هادٍ لأبرز مؤسسي الدولة العبرية، ديفيد بن غوريون، "كما يُستشف ذلك في توصيفاته لنتائج حرب 1948 التي لجأ فيها إلى تعابير مستلة من التوراة".
توسلت الصهيونية، وهي أم الحركات "الجهادية" المتطرّفة، النص الديني، ويرى مؤرخون معاصرون محايدون أن الصهيونية والقاعدة و"داعش" وبقية القائمة في ما نعرف ولا نعرف من الحركات الجهادية في أفغانستان ومصر ومنطقة الساحل والصحراء وليبيا وغيرها... كل هذه الحركات هي ظواهر سياسية متطرّفة، تتوسّل النص الديني (أيديولوجيا)، لإسباغ الشرعية على سلوكياتها وسياستها، ومصطلح الجهاد معطى ثقافي ديني أساسا، وهو واجب مقدس في مخيال السلفية، وعقيدتها تستوجب التضحية والشهادة.. وصولا إلى الجنة وحور العين (!)، وقد نشأت ظاهرة الجهاد الأفغاني ردا على الغزو السوفييتي (الشيوعي الكافر) لأفغانستان، وظهرت جماعة الجهاد في مصر ردا على توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ونشأت "القاعدة" ردا على دعم استدعاء القوات الأميركية إلى الجزيرة العربية لتحرير الكويت من الغزو العراقي. وكذلك ردا على دعم أميركا أنظمةً عربية، اصطدم بها العائدون من أفغانستان. وهكذا دواليك، فكان نشوء "القاعدة في بلاد الرافدين" ردا على الغزو الأميركي للعراق. ويعد تنظيم ما يسمى الدولة الإسلامية الرد المباشر على السياسات الطائفية في المنطقة، فعندما عاد من صحراء الأنبار كانت أميركا قد غادرت العراق، وعن طريق حلفائها أحكمت قبضتها على التنظيم، فبدأ مسلسل الفوضى الهدامة بفصول من دم ودمار وتهجير وتنكيل.
وفي منطقة الساحل والصحراء، في أفريقيا، ثمّة الأزمة القائمة في مالي، واحتضان المنطقة نشاط المجموعات المسلحة ذات العقيدة الجهادية التكفيرية التي لا تؤمن بحدود، ولا بكيانات، وتتحرّك على أراضٍ يعاني سكانها من العزلة التاريخية، في ظل عجز أغلب دول المنطقة عن بسط نفوذها على أراضيها الصحراوية، خصوصا إقليم أزواد المتاخم لأربع دول، موريتانيا
والنيجر والجزائر وبوركينافاسو. وأزمة الساحل والصحراء نموذج واضح لمجمل تراكمات سياسية وثقافية وعرقية: سياسات الاستعمار التي قطعت هذا الجسد، من دون مراعاة التاريخ والجغرافيا والطبيعة والتركيبة القبلية البشرية، فقد نسف الاستعمار المجتمع والتاريخ وعواطف الناس من منتجعين ومسافرين ومقيمين، ما جعل الخرائط الجديدة جالبة للحروب الأهلية والنزاعات الإقليمية: حروب بين الجار والجار، وبين شمال البلد الواحد وجنوبه، وجديدُها حرب انفصال الشمال المالي عن جنوبه. وكان من الطبيعي أن ينتشر الإرهاب في المنطقة، ما شجع على التدخل الأجنبي من جديد، بتعلة المساعدة على مقاومة الإرهاب، فتدخلت القوات الفرنسية في مالي، والأميركية في النيجر، لتدخل المنطقة بأسرها في خدمة الأجندة الأجنبية، من دون اعتبار المصلحة الوطنية والإقليمية: قوات أجنبية بحمولةٍ ثقافيةٍ ودينيةٍ، نقيضة للمجتمع والسكان، مستفزّة لمشاعرهم الدينية، فهي بالنسبة إلى السكان المحليين قوات استعمارية، يشكل بقاؤها أكبر دعمٍ يمكن تقديمه للحركات الجهادية المتطرّفة، في عملها على استقطاب مزيدٍ من الأنصار، لمواجهة هذه القوات، والحكومات المتعاملة معها، تحت راية "عقيدة جهاد الدفع والطلب"، والتي زرعت هذه الحركات، كما سبق أعلاه، بذورها منذ دخول القوات السوفييتية أفغانستان، ثم ازدهرت لاحقا في كل مكان.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي