تواجه الدول الغربية أزمة انحسار الطبقة الوسطى، مما ستترتب عليه انعكاسات خطيرة على مستقبل بقاء النظام السياسي الديمقراطي والاقتصاد الرأسمالي والنسيج الاجتماعي في المستقبل.
وهو يترجم حالياً في تزايد الغبن الاجتماعي ونشوء الأحزاب القومية والحركات الشعبوية في أوروبا التي تعمل على تمزيق الاتحاد الأوروبي، وتهدد بتفتيت المجتمع في أميركا بعد نمو الطبقات الفقيرة والمهمشة في أحياء الـ"غيتو"، تحصرها بنايات الأسمنت وناطحات السحاب في المدن الكبرى الغنية.
وهو يترجم حالياً في تزايد الغبن الاجتماعي ونشوء الأحزاب القومية والحركات الشعبوية في أوروبا التي تعمل على تمزيق الاتحاد الأوروبي، وتهدد بتفتيت المجتمع في أميركا بعد نمو الطبقات الفقيرة والمهمشة في أحياء الـ"غيتو"، تحصرها بنايات الأسمنت وناطحات السحاب في المدن الكبرى الغنية.
وهنالك عدة اصطلاحات لمسمى الطبقة الوسطى، ولكن عموماً يطلق اسم الطبقة المتوسطة على فئة المجتمع التي تقع في وسط الهرم الاجتماعي والاقتصادي من حيث مستويات الدخول. وبحسب اصطلاح عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر فإن الطبقة المتوسطة هي الطبقة التي تأتي اقتصادياً واجتماعياً بين الطبقة العاملة والطبقة الغنية.
ووسط تركز الثروة في أيد قلة من أفراد المجتمع في كل من أوروبا وأميركا، على حساب الطبقة الوسطى وذوي الدخول المنخفضة، تتزايد مخاطر استقرار النظم الغربية. وظهرت عوامل التصدع في أوروبا في ارتفاع شعبية الأحزاب القومية مثل حركة" فايف ستار" في إيطاليا، والأحزاب العرقية واحتجاجات "السترات الصفراء" في فرنسا.
في هذا الصدد، تؤكد دراسة صدرت قبل أيام، إن على الحكومات أن تبتدع سياسات لدعم الطبقة الوسطى التي تعاني حالياً من التقلص وتراجع الدخول، حتى تتمكن من الحفاظ على مستويات المعيشة والقدرة الشرائية التي كانت متوفرة للأجيال في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، وتحديداً عقود ما بعد الستينيات وحتى نهاية العقد القرن الماضي.
وذكرت الدراسة الصادرة عن منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، أن الطبقة الوسطى تقلصت بشكل كبير في الدول الغربية الأعضاء بمنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي.
وأشارت إلى أن الأجيال الشابة تجد صعوبة بالغة حالياً في الحصول على الدخول التي تمكنها من العيش بنفس المستوى الذي كان متوفراً للأجيال التي سبقتها في عقود الستينيات والسبعينيات وحتى التسعينيات.
وتقول، "بينما كان 70% من أجيال السبعينيات والثمانينيات يحصلون على دخول تؤهلهم ليصبحوا من أفراد الطبقة الوسطى في الدول الغنية، فإن هذه النسبة انخفضت اليوم إلى 60%"، وبالتالي تشير الدراسة إلى أن نفوذ الطبقة الوسطى في المجتمعات الغربية تقلص بدرجة كبيرة.
ولاحظت الدراسة أن دخول الطبقة الوسطى حالياً انخفضت في الدول الغنية إلى المستويات التي كانت عليها قبل 10 سنوات، وذلك على الرغم من ارتفاع معدل التضخم الذي يعني عملياً تآكل القدرة الشرائية.
وقال الأمين العام لمنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، أنجيل غوريا، في تقديمه للدراسة في نيويورك، "على الحكومات أن تستمع لقضايا الشعوب وتعمل على تطوير وحماية مستويات المعيشة للطبقة الوسطى". وأضاف "أن ذلك سيساعد على النمو الاقتصادي وتماسك المجتمعات واستقرارها".
وأشار غوريا إلى أن الكلفة المعيشية للطبقة الوسطى ارتفعت بمعدلات أسرع كثيراً من معدلات نمو الأجور، حيث ارتفعت كلفة السكن إلى ثلث الدخل الصافي لأفراد الطبقة الوسطى، مقارنة بنسبة 20% من دخولها في التسعينيات. كما أن أسعار المساكن ارتفعت بمعدل ثلاثة أضعاف خلال العقدين الماضيين، مقارنة بالارتفاع المتواضع في دخول أفراد الطبقة الوسطى.
وحسب منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي فإن نجاح وتوسع وقوة الطبقة الوسطى يمثل أهمية كبرى للاستقرار السياسي والاجتماعي في الدول. كما تشير إلى أن وجود الطبقة الوسطى العريضة يلعب دوراً حيوياً في المجتمعات ونمو الاقتصادات العالمية.
من الناحية الاقتصادية، فإن نمو الطبقة الوسطى العريض وتزايد دخولها، يساهم بشكل مباشر في استهلاك السلع والخدمات التي تعد من أهم عوامل انتعاش نمو الناتج المحلي الإجمالي. ومن الناحية الاجتماعية، فإن الطبقة الوسطى تمثل برزخاً يربط بين الطبقة الثرية والفقيرة في المجتمع، وبالتالي تقلل من الصراع الطبقي بين الأثرياء والفقراء وتمنع تمزق المجتمعات في النظام الرأسمالي الديمقراطي.
وترى المنظمة في الدراسة، أن هنالك دلائل قوية على أن استمرار التفاوت في الدخول لسنوات عديدة، يعد أحد الأسباب الرئيسية للركود الاقتصادي في أوروبا.
ويلاحظ في هذا الصدد، أن البنك المركزي الأوروبي سعى طوال السنوات التي تلت الأزمة المالية العالمية وأزمة الديون في أوروبا، إلى اعتماد نسبة نمو سالبة، على أمل تحريك القوة الشرائية التي باتت راكدة بسبب تدهور دخول الطبقة الوسطى.
من جانبه يرى صندوق النقد الدولي، في دراسة بهذا الصدد، أن دخول الطبقة الوسطى وطبقة العمال، هما المحركان الرئيسيان للنمو الاقتصادي، وأن ركود دخول الطبقة الوسطى يضر بالنمو الاقتصادي على المديين القصير والمتوسط.
من جانبها، لاحظت منظمة العمل الدولية، أن الطبقة الثرية تحصل على دخولها من الاستثمار في أسواق المال وأدواتها، فيما تحصل الطبقة الفقيرة على دخولها من الإعانات الاجتماعية التي تقدمها الدولة والأعمال اليدوية البسيطة التي لا تدر دخلاً يذكر. بينما تحصل الطبقة الوسطى على دخلها كاملاً من الوظائف الحكومية وشركات القطاع العام والخاص.
وبالتالي فإن جزءاً من هذا الدخل يذهب مباشرة عبر الاقتطاع شهرياً من المرتبات إلى خزينة الدولة لتلبية النفقات العامة.
وفي المقابل، فإن الطبقة الثرية عادة ما تتهرب من الضرائب الحكومية عبر استخدام الثغرات القانونية وغير القانونية. كما أن الطبقة الفقيرة في حاجة دائمة للدعم المالي من الدولة.
وبالتالي، فإن الطبقة الوسطى هي الفئة الوحيدة التي تدعم بشكل مباشر وقوي استقرار النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الدول الغربية عبر مد الدولة بالمال ومن خلال الضرائب المباشرة وإنعاش الاقتصاد عبر القوة الشرائية وتنمية الوعي الاجتماعي والسياسي والاشتراك المباشر في الحوار السياسي والانتخابات.
ويشير الصندوق في تحليله، إلى أنه كلما ازدادت قوة الطبقة الوسطى وتوسعت كلما قوي النظام الرأسمالي الديمقراطي، والعكس صحيح، كلما ضعفت كلما تفكك النظام.