لا حدود لخيال الفنان/ة في ترجمة أفكاره، حتى لو تأثّرت بأشكال هندسية قديمة إسلامية ذات قوانين رياضية وهندسية صارمة. هذا ما يظهره معرض فنّي حمل عنوان Enfolding and Unfolding: Geometric Abstraction in Motion وأقيم في غاليري بناية "فايزر" في بروكلين، نيويورك، والذي يضمّ أعمال فيديو وتشكيل للفنانين؛ الفلسطينية سامية حلبي والعراقيين غسان غائب وهيمت محمد علي.
قيّمة المعرض، العراقية سناء الماجدي، تركت العراق مع عائلتها وعاشت في السويد ثمّ هولندا، حيث درست الفن قبل أن تنتقل منذ عامين إلى نيويورك. في حديثها لـ"العربي الجديد"، تبيّن الماجدي أن "ما حاولت القيام به هو الوقوف عند أعمال لفنانين تأثّروا بالأشكال الهندسية الإسلامية وفنّها وتعاملوا معها كل بطريقته، لكن الأهم بالنسبة إليّ أن المعرض لا يدّعي أن الفنانين المشاركين يمثّلون العالم العربي أو (الشرق الأوسط)، على الرغم من أن ثلاثتهم يتحدرون من هناك".
اللافت في المعرض أنه يتعامل مع مسألة السياق الذي تعرض فيه الأعمال، إلى جانب الكيفية التي يجري تسويقها من خلالها. تقول الماجدي "من خلال تجربتي في الدراسة والعمل، لاحظت اهتماماً بالفنون من العالم العربي، لكن عرضها لا يخلو من سياق استشراقي، بحسب نقد إدوارد سعيد. تكمن الإشكالية في عرض كم هائل من تلك الأعمال تحت مسمى (العالم العربي أو الشرق الأوسط) من دون أن يكون لها ثيمة غير أن أصحابها ولدوا في الشرق الأوسط. فإن عرض أعمال جماعية يتطلّب أن تتشارك/ تتحاور تلك الأعمال حول ثيمة أو ثيمات معينة".
بالنسبة إلى أعمال سامية حلبي (القدس/ 1936)، المشاركة في المعرض، فتحضر من خلال فن الفيديو. ترى الماجدي أن لدراسة حلبي في جامعة "إنديانا" أثرا كبيرا على تجربتها، ومن المعروف أن الفنانة الفلسطينية لجأت مع عائلتها إلى لبنان، بعد النكبة 1948 ثم هاجرت، بعد سنوات، إلى الولايات المتحدة، حيث درست التصميم ثمّ الفن في "إنديانا". تقول الماجدي: "إذا نظرنا إلى دراسة حلبي، سنجد أنها تأثرت بمدارس طغى حضورها على كلية الفنون في الجامعة، مثل (باوهاوس)، إلى جانب فنانين كالسويسري باول كلي والروسي فاسيلي كاندنسكي". غير أن هذا لا يعني أن حلبي انقطعت عن الثقافة العربية خلال بحثها، إذ حصلت على منحة عام 1966 مكّنتها من الذهاب إلى سورية ومصر وتركيا وفلسطين لدراسة الفن المعماري الإسلامي. من هنا يمكن القول إن هذه التأثيرات المختلفة والمحطات هي ما صقل تجربة حلبي.
تحاكي أعمال الفيديو المختلفة لحلبي، ثيمة النجمة لتظهر تجسداتها المختلفة، كما هو في الفن المعماري الإسلامي التقليدي، عن طريق أشرطة فيديو أنتجتها حلبي بحاسوب "أميغا"، الذي أُطلق للمرة الأولى عام 1985 وأحدث ضجة، بسبب الوسائط المتعدّدة بما فيها خواص الصورة والصوت وتعدّد المهام. ويتذكّر كثيرون هذا الحاسوب بسبب ألعاب الفيديو. وكما هو الفن الإسلامي حيث تختفي وراء الأشكال الهندسية عمليات حسابية وهندسية معقدة، فإن وراء الأعمال الفنية بالفيديو التي أنتجتها حلبي عملية برمجة. ويأخذ العمل على عاتقه ضمّ تلك الرحلة، أي البرمجة وكتابتها، لتكون جزءاً من العمل الفني نفسه.
أما الفنان التشكيلي العراقي هيمت محمد علي (كركوك/ 1960)، فيعيش كذلك خارج وطنه الأم، حيث ترك العراق عام 1990 إلى باريس. ولم يدرس علي الفن بمعهد رسمي، إلا أنه تتلمذ على يد فنانين أجانب وعرب، ومن بينهم الفنان العراقي الكبير شاكر حسن آل سعيد، الذي درس في بغداد بكلية الفنون الجميلة مع الفنان العراقي الشهير جواد سليم. ويلعب الخط العربي دوراً مهماً في أعماله. واحتوى المعرض على جزء من تلك الأعمال التي أنتجها عام 2013 تحت عنوان "رسالة إلى عشتار"، وهي إلهة الحرب والحب في الحضارة البابلية القديمة. وطلب الفنان في حينه من سبعة شعراء عرب وأجانب، من بينهم العراقي سعدي يوسف والسوري أدونيس، كتابة قصائد رسائل إلى عشتار، ثم تفاعل معها بطرق فنية مختلفة جسدت الخط العربي، لكنها أخذته إلى أماكن أبعد من تجسده العادي. وجاء مشروعه رداً على التدمير الذي حل بالعراق وآثاره منذ الاجتياح الأميركي واحتلال بلاده عام 2003.
أما الجزء الثالث، فكان للفنان التشكيلي العراقي غسان غائب (بغداد/ 1964)، واحتوى المعرض على أكثر من عمل له تميّزت بكونها تفاعلية، بحيث يمكن للزائر لمسها وتحريكها بأطر معينة. واحدة من المعروضات التي حملت اسم "خارج المكان" كانت عبارة عن ثمانية مكعبات مرتبطة ببعضها للوهلة الأولى تظهر وكأنها مكعب واحد متلاصق ولكن يمكن للزائز تحريكها وتغيير شكلها الخارجي بطرق مختلفة ولكن بنيتها الأساسية تبقى ثابتة. ويبدو أن غائب اعتمد على نظريات حسابية وهندسية ليتمكّن الزائر من التفاعل معها بطرق مختلفة وحتى تغيير هيئتها الخارجية. ويرمز هذا العمل المرن والمتغير في هيئته للغربة والمدن العديدة التي تنقّل بينها الفنان، حيث يبقى أساسها واحداً لكنها تأخذ هيئات عديدة وتترك أثرها.
يحتوي المعرض على عمل تجريبي آخر لغائب يحمل اسم "معبد"، وهو كولاج من خريطة لبغداد وقماش مواد ورسومات أخرى التي تبدأ معلّقة على الحائط لتزل إلى الأرض وتصبح أشبه بالكتاب المفتوحة صفحاته ويمكن تقليبها. ومن الواضح، كما تقول الماجدي، تأثّر غائب بالفنان الفرنسي/ الروسي نيكولاس دو ستيل، حيث استخدام الظلال والألوان الحادة كالأسود والأزرق والأبيض، ومن خلالها يعيد تركيب معنى الخارطة بحيث يأخذ خارطة لبغداد من الأقمار الصناعية ويعيد تركيبها.
تتميز الأعمال المعروضة بمحاولتها التلاعب واللعب مع قضية الأشكال الهندسية بأدوات حديثة، بما في ذلك الأشكال المختلفة لشكل النجمة وتجسداتها، التي بقيت "متخشبة" في التراث، بحسب الماجدي. وتتعامل الأعمال المعروضة مع تلك الأشكال ولكن في سيولة.
على الرغم من معاناة الفنانين الثلاثة من الحرب والهجرة، إلا أن المعرض لا يريد للمتلقي أن يقف فقط عند هذا التاريخ المشترك، ولا أن يحلل أعمالهم من خلال تلك الخلفيات فقط، بل ترغب القيّمة في أن تكون تلك الخلفيات محطة وجزءاً، وليست الدائرة الوحيدة التي يتم التعامل من خلالها مع الأعمال المعروضة، ورغم أنها ليست سياسية بشكل مباشر، لكن المواضيع السياسية لم تغب عنها.