بين أليسا وكونفوشيوس وسقوط الأندلس

07 يناير 2015
+ الخط -

سقطت أليسا على خشبة المسرح، في حفل رأس السنة، استعادت حكمة كونفوشيوس "العظمة ليست في ألا تسقط أبداً، العظمة في نهوضك بعد كل سقوط". انشغلت مواقع التواصل الاجتماعي بالحدث الذي نقلته (سي إن إن)، كتب لها أحدهم "يا جبل ما يهزك ريح"، علّق آخر "في ناس ما سامعيش أصلا عن سقوط الأندلس، لكن سمعوا عن سقوط أليسا"، قال ثالث "مستنيين إيه من عام 2015 بعد ما وقعت أليسا".
هكذا انعقدت الصلة بين سقوط أليسا وسقوط الأندلس، سقطت غرناطة في مثل هذه الأيام من عام 1492، ترك أبو عبدالله محمد بن الأحمر الصغير قصره، وهو يجرّ الحسرات، عند الربوة العالية المطلة على القصر زفر زفرته الأخيرة، وشرع بالبكاء، التفتت إليه أمه عائشة، وعنفته: "ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً، لم تحافظ عليه مثل الرجال"!
ملوك الطوائف قبل أكثر من خمسمائة عام انشغلوا بالترف، وتخاصموا على السلطة والمال والنفوذ، كانوا أكثر من عشرين حاكماً، في أكثر من عشرين مقاطعة، هل هي مصادفة أن يحكم عالمنا العربي اليوم أكثر من عشرين حاكماً في أكثر من عشرين دولة، وهل هي مصادفة، أيضاً، أن ينشغل حكامنا بالصراع على المال والسلطة والنفوذ، وكل هذا يؤدي إلى حب الدنيا، وسقوط الدول، هكذا قال ابن خلدون.
سقطت أليسا ليلة رأس السنة، ونهضت، سقطت قبلها دول، لكنها تعثرت ولم تنهض بعد،

العراق سقط، وأوشك أن يتحول إلى "عراقات" عديدة، غيّبت التوترات والصراعات الطائفية فيه، على مدى العام المنصرم، وحسب الأرقام الرسمية، 15538 إنساناً كانوا ينعمون بالحياة، ومنظمة بريطانية متخصصة في إحصاء قتلانا تقول إن العدد أكثر من ذلك، وتضع الرقم 17037 حداً أدنى، أضف إلى ذلك أن عدد من اختطف من النساء والرجال والأطفال بلغ 4563. وفي منتصف العام، شهدنا مولد تنظيم داعش، ونهاية العام كنا أمام توغل الميليشيات، بكل ألوانها وأصنافها في حياتنا اليومية، وكل منها ترفع شعار "باقون ونتوغل"!
ليبيا سقطت، ودخلت في حروب أهلية، لا تبدو لها نهاية، اتسعت البلاد لتضم جيوشاً وميليشيات وقبائل متنافرة متناحرة، وكذا أكثر من حكومة، وأكثر من برلمان، والخشية من أن تتحول إلى عراق آخر، هكذا يبدو العراق "نموذجاً" بالغ السوء، تسير أقطار أخرى على طريق "الاقتداء" به!
مصر تعثرت، بعد أن ركب سفينتها العسكر، وإذا كانت قد عودتنا أن تؤدي دور الرافعة الأساسية لكل العرب، فقد دخلت في ظل العسكر في حالة "انسداد"، ليس ثمة حل إلا إذا أرغم التاريخ قادتها الحاليين على تغيير دراماتيكي مفاجئ، لكن المصيبة أن التاريخ نفسه قد شاخ، ولم يعد يهتم بالتغيير تلقائياً!
نسي أهل اليمن أنهم أهل حكمة، وأنهم "الأرقّ أفئدة، والألين قلوباً"، وأن "الحكمة يمانية"، وقد اختلفوا وتنازعوا، وتقاتلوا أيضاً، وكان أن غابت السعادة عنهم، وكف المؤرخون عن إطلاق صفة "السعيد" على بلدهم، واعتبر حكماؤهم العام المنصرم "الأسوأ" في تاريخهم. وفي مطلع العام، لم يعودوا يذكرون وحدة اليمن، تكفيهم قسمة يسمونها "عادلة"، يضمنها الدستور، وتبعد عنهم شبح حرب أهلية، لا تبقي ولا تذر!
سورية التي كانت عاصمتها "أول الشرق وآخره"، و"كان الزمن العربي يبتدئ فيها، وينطفئ الزمن الهمجي"، كفت عن أن تمنح أبناءها طاقة العبور إلى عالم الحرية، حيث تقلصت الدولة، وأصبحت تعني بضعة أحياء وأزقّة، وتعددت المعارضات وتناسلت جيوشاً وقيادات ومجالس حكم، الشيء الوحيد الذي ظل على حاله لا يعبأ به أحد هو نزيف الدم، وعصف الدمار.
الفلسطينيون كتب عليهم أن يظلوا وحدهم، بعدما هزت الريح من جاءوا بعد "الختيار"، واجهوا، في منتصف العام، آلة الحرب الإسرائيلية التي حصدت أكثر من ألفين، بشجاعة وإباء، وفي آخره حلموا بأن تكون لهم دولة، ولو على 22% من مساحة فلسطين التاريخية، لكن أميركا أجهضت حلمهم في مهده، واستخدمت ضدهم الفيتو للمرة الثانية والأربعين، ولم يرد العرب على الفيتو الأميركي، لم يقطعوا علاقة، ولم يستدعوا سفيراً، حتى ولم يكتبوا احتجاجاً، وبعضهم ربما لم يسمع بما جرى. 
باقي أقطارنا، رعاها الله، بقيت عاماً آخر، معلقة على "كف عفريت"، وجامعتنا، هي الأخرى، بقيت على حالها، لا هي جامعة، ولا هي عربية.
وهكذا، في آخر العام سقطت أليسا، قرأ بعضهم سقطتها على أنها إنذار مبكر مما يخبئه العام الجديد لنا من سقطات وعثرات. أليسا نهضت من سقطتها، أعطتنا درساً في أن "العظمة ليست في ألّا تسقط أبداً، إنما العظمة في نهوضك بعد سقوط". لكننا لم نسمع من قبل بحكمة كونفوشيوس، ولم نتعلم درس أليسا بعد.
   
   

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"