بزوغ عصر المظلوميات

12 مايو 2015

أحد معسكرات الاعتقال النازية في وارسو (19مايو/2014/Getty)

+ الخط -
أوصلنا بؤس الأوضاع العربية إلى مرحلة لم نعد معها نُفرّق بين الظالم والمظلوم. جميع الأطراف المتصارعة في الحلبة السياسية، ومعها جمهورها الطائفي، تحمل قميص المظلومية. بتنا لا نستطيع التمييز بين المُعتدي والمعتدى عليه، لا في الخطاب، ولا في السلوك أوالممارسة السياسية، إلا بمقدار مهارتنا في الابتعاد خطوات عن الانغماس في الاصطفاف القائم، والسعي إلى التقاط نوعية كتب التراث التي يستقطي منها كل طرف أدبياته، ويبرر بها أفعاله، فشهيد هؤلاء هو إرهابي أولئك، والعكس.

في العصر الحديث، لم يتاجر أحد بقضية، كما تاجر الصهاينة بقضية الهولوكوست، حيث عمل قادة الكيان الإسرائيلي على استغلال رمزية الإبادة التي حصلت للأقلية اليهودية في أوروبا، وغيرها من الأقليات، في ممارسة أبشع الجرائم بحق الشعب العربي الفلسطيني، وتشريده من أرضه. لا شك أن النازية ارتكبت، في خضمّ فورانها الأيديولوجي، جرائم هائلة ضد من تصفهم "الأغراب"؛ في سبيل تكوين الدولة الحلم، تماماً كما يفعل الصهاينة اليوم، وقد قُتل حينها ما يقارب 20 مليوناً إبان السيطرة النازية، لا يشكل اليهود أكثر من 6 ملايين منهم، إلا أن الخطاب السياسي والأيديولوجي كان موجهاً، بشكل أساسي، باتجاه معاداة هذه الطائفة، ما أكسبها شرعية خاصة للتظلم، وتحولت هذه الجريمة التاريخية إلى مظلومية سرمدية، حيث يعاد إنتاجها باستمرار، من خلال التعليم والإعلام واللوبيات المنتشرة في العالم، بغرض تحقيق مكاسب سياسية آنية، يتم من خلالها ابتزاز دول الغرب، بغرض تقديم مزيد من التنازلات في ملف الصراع العربي الإسرائيلي. لذا، قد يعتبر بعضهم خطاب العنصرية تجاه الطوائف الأخرى، والذي ينتشر بين ظهرانينا الآن، غير ذي قيمة، ولا يؤثر بشكلٍ مباشرٍ على الحدث، لكن الحقيقة غير ذلك، ل
هذا الخطاب بالغ الأثر في تهيئة الناس لتقبل الجرائم، إذا ما حدثت، كما ويعطي للآخر فرصة استثمارها إعلامياً وسياسياً، أو الرد عليها بالمثل.

خطاب المظلومية، وإن كان يساعد في تعضيد لحمة الجماعة الطائفية، وشدّ عصبها، إلا أن له انعكاسات سلبية على طريقة عيش هذه الجماعة في محيطها، وفي علاقاتها الاجتماعية مع الآخرين، حيث ينطوي هذا النوع من الخطاب على رواية تحجز أفراد الجماعة داخل قفص العزلة، وتشعر الفرد بأنه يتعرض لخطر القتل، ولمؤامرة كونية تحاك ضده، هو فقط من دون بقية البشر، فيعيش بذلك الفرد، كما الجماعة، حالة رهاب من المختلف، وكأنه يعيش تهديداً داهماً على مدارس الساعة، كما اكتشف عالم الاجتماع الإسرائيلي، دانيال بار طال، في كتابه (العيش مع الصراع)، حينما عمل على دراسة النفسية السياسية للصهاينة، ما ينعكس، بشكل أو بآخر، على نفسية المجتمع، فتتشكل تبعاً لذلك الشخصية الإجرامية للمجتمع، حيث باتت هذه الشخصية المتلحفة بخطاب المظلومية هي التي تنتج تصرفاته العدوانية، وانفعالاته، وتبرر جرائمه.

إذا كانت المظلومية، في لحظة ما، خاصية للأقليات، كي تحمي نفسها من الذوبان في الجماعة، كما تتوهم، وتحيك بها خطابها السياسي، من أجل استدرار تعاطف العالم، بدلاً من التفكير في الاندماج في الجماعة الوطنية، والمساهمة في بناء دولة المواطنين، فإننا، الآن، أصبحنا نشاهد بزوغ مظلوميات جديدة، لا يختلف فيها سلوك الأغلبية وخطابها عنهما لدى الأقلية داخل البلد نفسه، وإذا كان خوف الأقلية قد يقود إلى إضعاف المجتمع السياسي، فإن مظلومية الأغلبية يمكن أن تقود إلى تمزيقه. أضحت المظلومية محل تنافس محموم من جميع الفاعلين في الفضاء السياسي العربي، وعليه، لكل جماعة تظلماتها ومسوغاتها، للوقوف موقف المظلوم، وبعضها صحيح، فالأمور هنا نسبية، وتختلف من معركة إلى أخرى، ولأننا في حالة حرب إقليمية مفتوحة، تفتقر للأيديولوجيا السياسية، وتزدهر فيها الحركات الدينية المسيسة، فإن الطائفة هنا تحولت إلى كيان مستقل بذاته؛ تُجند، تتحالف، وتحارب، فتُظلم وتظَّلم.

بكلمة مختصرة، إننا نتابع مشهداً معقداً، حيث لكل ساحة حيثياتها السياسية والاجتماعية، فلا يمكن الانسياق خلف دعاوى المظلومية، من دون تمحيص، مهما كان مصدرها. لا شك أن هناك جماعات تعرضت للظلم عبر التاريخ، لكن ما نشاهده هو ابتذال ممجوج لمعنى المظلومية، يساهم في تفشيه خطباء منابر، ووسائل إعلام، وسياسيون مهرة، بغرض استثمارها سياسياً، إلا أن هذا الخطاب إذا ما تُرك على الغارب، له نتائج وخيمة على وحدة الأوطان، وسلامة علاقاته الاجتماعية.

59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"