الحرية شمّاعةً للاستعباد

25 ابريل 2017

(سمعان خوام)

+ الخط -
في السنوات الأخيرة، سال حبرٌ كثير عن جدوى النموذج الرأسمالي الغربي، بعد أن تصدّعت أعمدته، "وول ستريت" و"بورصة لندن"، خلال الأزمة المالية التي ضربت البلدان الأكثر تطرّفاً في تطبيق النموذج عام 2008، ومثلت الأكثر إغراءً للآخرين، في لحظة صعودها بعد الحرب العالمية الثانية. أعاد هذا التصّدع إلى طاولة النقاش أجدى النظريات الاقتصادية، وأكثرها ملاءمة للمجتمع، نموذج السوق المفتوح أم اقتصاد التخطيط المركزي، وما بينهما من تنظيرات، على غرار كتابات جون ماير كينز.
باتت الصحف الأميركية، وهي المعروفة بسيطرة اليمين عليها، وكرهها الأفكار اليسارية، تناقش كتابات كارل ماركس، فكتبت مجلة "فورين بولسي"، مثلا، مقالاً بعنوان "عودة ماركس"، كما نشرت "بلومبرغ" مقالاً مطولاً لجورجي ماغنوس بعنوان "أعطوا ماركس فرصة كي ينقد الاقتصاد العالمي؟". أحيت الكارثة الاقتصادية التي هزّت الغرب حلولاً اعتقد كثيرون أنها تصلح مادة لتاريخ الاقتصاد، كما راح المحافظون الجدد يفتشون عن النظرية الكينزية، ولو على طريقة استخدام مرة واحدة، كما أشار ساخراً، الاقتصادي اليوناني يانيس فاروفاكيس. العودة إلى كنز، وإلى غيره ممن ارتبطت أسماؤهم بالنظريات الاقتصادية التي تؤيد الليبرالية، لكنها تدعم تدخل الدولة، في أوقات الركود والكساد، تمثل اعترافاً صريحاً، بأهمية دور الدولة ومحوريته في التأثير على المسار الاقتصادي، لكن تدخلها مطلوبٌ في حالة واحدة فقط، عندما تتعطّل محرّكات الرأسمالية الحديثة، وتشعر بدنو الأجل، فيتحوّل الأغنياء فجأة نحو الإيمان بالاشتراكية. المضحك المبكي في وضع الاقتصاد العالمي اليوم هو بالضبط ما قاله المفكر الماركسي الفرنسي، جاك رانسيير: "هيمنة الرأسمالية على الصعيد العالمي تعتمد اليوم على وجود الحزب الشيوعي في الصين، حيث يعطي الشركات الرأسمالية غير المحلية عمالةً رخيصة، لخفض الأسعار وحرمان العمال من حقوق التنظيم الذاتي".
يشعر الجميع تقريبا، في أميركا، بقرب أزمة مالية جديدة قد تضرب المركز، بمن فيهم عتاة الرأسمالية، كالعقاري الأميركي روبرت كيوساكي الذي تحدث بإسهاب عن حجم الدين
الأميركي الذي وصل إلى قرابة 20 تريليون دولار (تملك الصين الشيوعية منه 1.244 تريليون) ولقرب انهيار الدولار، نتيجة كثافة الطباعة بعد فكاكه عن الذهب، وفساد "وول ستريت" التي تحظى "بالاستثناء"، في مقابل تعرّض الأغلبية من الشعب الأميركي لخطر الفقر.
الآن، وبعد أن تأكّد الجميع، بمن فيهم الرأسماليون، من ضرورة وجود دولةٍ قويةٍ تضبط الحركة الاقتصادية، وتحدّد مسارها، بغض النظر عن دعاوى المسّ بالحريات الفردية وقتل الإبداع والطموح، وهو تحصيل حاصل لمعظم المواطنين، في حال خسروا وظائفهم ومنازلهم، فلن يبقى للحرية معنىً في حياتهم. لذا، يجب أن نعود بالنقاش إلى مصدره الأول، أي إلى أفكار الاقتصادي النمساوي، صاحب كتاب "الطريق إلى العبودية"، فريدريك هايك، وقد سعى من خلاله إلى ضرب التخطيط المركزي للاقتصاد، حيث تكمن الحجة الجوهرية بالنسبة لهذا الطرح الليبرالي الكلاسيكي، في أن التخطيط المركزي ينتج دولةً شمولية، ويقيّد الحريات الفردية، فيحدّ من استغلال الموارد، ويعطّل الحافز للاجتهاد والابتكار، بل أكثر من ذلك، يعتقد هايك بأن الاشتراكية هي البطن الذي حمل النازية في ألمانيا. كما يظن أن التخطيط المركزي يتأتى، بالضرورة، عن طريق جبر الناس على خيارات محدّدة، فأولئك الذين بيدهم التخطيط قلة بالضرورة، سوف تتحكم في خيارات الأفراد. وكأن اقتصاد 1% حالياً، في نيويورك حامٍ للحريات، ومنظم للتفاوت في الثروة، في حين أن مظاهرات "احتلوا وول ستريت" قمعت وضربت بالعصي، لأنها تظاهرت ضد فساد "محرّك الرأسمالية" الأساسي.
إذن، تُشكّل حرية الفرد، وكذا تحرّره من أغلال الدولة، الحجة الرئيسية في نقاش تحرير الأسواق من تدخل الحكومة، أو أي جهةٍ خارجية، على اعتبار أن من شأن أي تدخل في تحديد وجهة الموارد والمنتجات أن يتحكّم في الخيارات، وهذا صحيح نسبياً، لكن الأقسى منه هو احتكار أرزاق الناس، وتحويلهم عبيداً معدمين داخل الماكينة الاقتصادية، عبر سحقهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم الإنسانية. بمعنىً من المعاني، فإن "الطريق إلى العبودية" غير مرتبط بنموذجٍ اقتصاديٍ محدّد، فقد يكون الطريق نحوها معبّداً بالرأسمالية أو بالاشتراكية، لكن ذلك يعتمد على النتائج الاجتماعية والسياسية التي يُخلفها النموذج، على مستوى العدالة الاجتماعية وردم الهوة بين الاغنياء والفقراء، وتمتّع الإنسان بحياةٍ كريمة، بحيث بعدها يصبح للحرية معنى لدى الناس. المؤكّد أن الرأسمالية الحديثة لم تساهم في تحرّر الإنسان، بمقدار مساهمتها الجلية في إفقاره ورميه في مجتمعٍ استهلاكي، يلهث الناس خلف مزيدٍ من الاستهلاك، بالعمل في أكثر من وظيفة، آملاً باللحاق بقطار الحاجات والرغبات.
خلاصة الكلام، من يتحكّم في الاقتصاد يتحكّم في حرية الأشخاص الذين ينخرطون طوعاً أو كرهاً فيه. يتطابق هذا القول مع ما استنتجه ماركس، لكن استخدام الليبراليين له أتى بشكلٍ مقلوب. إن كانت النتائج الاقتصادية تشير إلى أن ماركس على حق في تشخيصه أزمات الليبرالية، فقد تكون أفكاره عائدةً إلى ساحة الصراع، ليس تحقيقاً للنبوءة، لكن للبحث عن نقيضٍ جاهز لتحطيم الصنم الرأسمالي.
59C609B9-D3BD-480F-B605-2AC47CF69F0B
محمد الصادق

كاتب سعودي، مؤلف كتاب "الحراك الشيعي في السعودية"