11 ابريل 2024
برميل كركوك المتفجّر
حتى وقتٍ طويل، صُوّرت مدينة كركوك على أنها فاكهة الأكراد المحرّمة، فمنذ تشكيل الكيان العراقي، وكركوك لا تحظى بفرصة جديّة تصبح بموجبها مدينة كردستانية، أسوةً بالحواضر الكردية الأخرى (أربيل، السليمانية، دهوك)، ولا أن تنزاح نحو بغداد لتتحول مدينة عراقية صرفة، بل بقيت مدينة متعدّدة القوميات والأديان والطوائف، تتجاذبها حكومة المركز من جهة والحركة القومية الكردية من جهة أخرى، وتتدخل في تفاصيلها ومستقبلها، إلى حدٍ ما، دول الجوار.
سبق أن حدثت محاولاتٌ عديدة لتغيير التركيبة السكانيّة لمحافظة كركوك، والتلاعب بها خلال حقبة الاحتلال البريطاني، عبر استقدام عمال عرب وأرمن، ثم في زمن الحكم الملكي الهاشميّ حدث أمر مشابه، وكذلك في ظل الأنظمة "الجمهورية" المتعاقبة بقي الأمر على هذا المنوال، ولعل أشدّها حدث في زمن "البعث" الذي لم يكتفِ بتغيير ديمغرافيتها، بل عبث ببنيتها الإدارية، عبر تقسيمها وتوزيع مساحات شاسعة من أراضي المحافظة على محافظات أخرى، وطرد العمال الأكراد، وفصلهم من وظائفهم وإحلال العرب مكانهم، وعبر سياسات شتى كحال مشروع "الحزام الأمني "، والذي كان عَصبه تعريب محيط كركوك، وتخفيف الحضور الكردي فيها. وعلى الرغم من تغيير اسمها زمن صدام حسين إلى محافظة "التأميم"، وما رافقها من إصرار على التعريب، وحسم موضوع هويتها التعددية لصالح الهوية العربية، بقيت كركوك بالنسبة للحركة القومية الكردستانية في مصاف المنطقة "المقدّسة" التي لا يمكن التفريط بها، كذلك يعتبر الدفاع عن كردستانية هذه المدينة الكلمة المفتاحيّة في الدعاية الحزبية الكردية. وعليه، لن يكون غريباً فهم المقولات التي تمجّد كركوك لتصفها بـأنها "قدس الأكراد" أو " قلب كردستان".
في إزاء الإصرار الكردي هذا، تجاه "كردستانية" كركوك، تظهر المزاعم التركمانية حول
تركمانية المحافظة وفكرة "الحق التاريخي"، وكذلك الشعارات العربية الأخف نسبياً حول عربية كركوك، وإن كانت التعبيرات السياسية التركمانية والعربية تجنح نحو اعتبار المحافظة عراقية، حلاً وسطاً يخفف من حدّة مشاعر الأكراد، ويحاول فرض صيغة توافقية ما.
في الأثناء، لم تكن (مزحة) تلك العبارة التي أطلقها رئيس إقليم كردستان، مسعود البرزاني، حين أفصح عمّا يجيش في قلوب الأكراد بأن "الحدود ترسم بالدم"، فالدم المسال في معارك صد تنظيم داعش، ومن ثم معارك دحر التنظيم والإجهاز عليه، ليست مجانيةً بهذا المعنى، ولا يحتاج الأمر إلى شرحٍ مستفيض، حتى نعي منطوق هذه العبارة، فعلى وقع مشاركة البيشمركة الكردية في الحرب على "داعش"، طفت إلى السطح مسألتان رئيستان، في ما خص الاستثمارات المتأتية من هذه الحرب: الأولى، إصرار كردستان العراق على نيل الاستقلال، وشحذ الهمم الدبلوماسية والسياسية في عواصم عربية خليجية وغربية عديدة في هذا الاتجاه، والثاني "استرداد" أكبر مساحة ممكنة من المناطق "المتنازع عليها" التي حددتها المادة 58 من قانون إدارة الدولة العراقية زمن الاحتلال الأميركي للعراق. وبذا، يمكن فهم توقيت رفع العلم الكردي في كركوك.
أصاب قرار محافظ كركوك، الدكتور نجم الدين كريم، رفع العلم الكردي فوق المرافق والدوائر الرسمية، بغداد بصدمةٍ كبيرة، اضطرت الأخيرة إلى استصدار قرارٍ من برلمانه بعدم دستورية هذا العمل، والمطالبة بإنزال علم إقليم كردستان، لكن قرار المحافظ، ومن خلفه الأحزاب الكردستانية (الاتحاد الوطني والديمقراطي وحركة التغيير) يشي بالجديّة، وصعوبة التراجع عن هذه الخطوة التي تدخل في سياق إستراتيجية كردستانية قد يصح تسميتها غنائم حرب "داعش" وتحقيق المكاسب على الأرض، وفرض سياسة الأمر الواقع بديلاً عن منهج الإقليم السابق الموسوم بالفشل، والذي كان قوامه الحوار والتفاوض مع المركز من دون جدوى.
في المقابل، يعكس رفض البرلمان العراقي رفع العلم الكردي، وبتوافق سنيّ – شيعي، في مرآةٍ أكبر، توافق طهران وأنقرة على خطورة هذه الخطوة الكردية. وإذا كانت تصريحات طهران الرسميّة أكثر هدوءاً كعادتها، حين تزن الأمور بميزان مصالحها الحيوية، فثمّة إشاراتٌ بالغة الوضوح على أن التحاق كركوك بركب كردستان العراق يعني أن طهران قد تستفيد من خطوط النفط التي قد تعبر أراضيها في موازاةٍ لتلك التي تستفيد منها تركيا، الأمر الذي يفسّر الغضب التركي المتنامي من التصرف الكردي أخيرا، وتعبيرها بالرفض المطلق لمثل هذه الخطوة، ودائماً عبر تذرّعها بحماية الأقلية التركمانية في كركوك، فتركيا لا تزال متمسكةً بالاتفاقيات التي وقعتها الحكومة التركية مع سلطة الانتداب البريطاني في العراق عام 1926، ثم مع الحكم الملكي في بغداد عام 1946، إذ لا يجوز، بموجب الاتفاقيتين، سلخ مدينتي الموصل وكركوك عن العراق. بكلماتٍ أخرى، تشير تركيا إلى إمكانية التدخل في حال أصر الأكراد على ضم كركوك، وإذا كان الغضب التركي يتدثر بغطاء "حماية التركمان"، فإنه، في جوهره، خشية على الموارد الثمينة التي تؤمنها خطوط نفط كركوك للدولة التركية.
تثير أزمة كركوك عاصفةً من التوقعات، يذهب معظمها إلى احتمال وقوع صدام بين الجيش
العراقي وقوات البيشمركة، أو حدوث حربٍ أهليةٍ بين مكونات المحافظة، لكن واقع المحافظة والعراق قد يفيد بقراءة مختلفة، وهي عدم قدرة الجيش العراقي على ضبط إيقاع الملف الأمني في المدينة، وتمكّن قوات البيشمركة من توفير هامش أمني كبير، يجعل من إمكانية وقوع صدام بين الجيش العراقي (المتعب) والبيشمركة المتحفّزة للحفاظ على مكاسب الإقليم المتحققة في كركوك أمراً صعب الحدوث حالياً، كما أن حدوث حربٍ أهليةٍ يحتاج إلى تكافؤٍ بين أطراف النزاع، وهذا أمر غير واردٍ في الظروف التي يستأثر فيها إقليم كردستان بحضور عسكريٍّ، لا يمكن كسره أو تطويقه، من خلال مليشيات عربية أو تركمانية.
لكن الثابت أن ثمّة برميل بارودٍ في كركوك، وهو قابل للانفجار في وقتٍ لاحق، ويبقى فتيل الأزمة ممدّداً على طاولة التفاوض بين الإقليم وبغداد حول المناطق المتنازع عليها، ومن ضمنها كركوك، فإما أن يصار إلى البحث عن حلول سياسية جديّة، تجنب كركوك والعراق الدخول في نفق مظلمٍ جديد، أو تبقى الحكمة الكردية المعاصرة "الحدود ترسم بالدم" سارية المفعول. وفي الحالتين، إذا كان رفع العلم يمثّل مشكلة حاضرة، فإن إنزاله يمثّل مشكلة لاحقة، وبين المشكلتين تغفو كركوك الآن.
سبق أن حدثت محاولاتٌ عديدة لتغيير التركيبة السكانيّة لمحافظة كركوك، والتلاعب بها خلال حقبة الاحتلال البريطاني، عبر استقدام عمال عرب وأرمن، ثم في زمن الحكم الملكي الهاشميّ حدث أمر مشابه، وكذلك في ظل الأنظمة "الجمهورية" المتعاقبة بقي الأمر على هذا المنوال، ولعل أشدّها حدث في زمن "البعث" الذي لم يكتفِ بتغيير ديمغرافيتها، بل عبث ببنيتها الإدارية، عبر تقسيمها وتوزيع مساحات شاسعة من أراضي المحافظة على محافظات أخرى، وطرد العمال الأكراد، وفصلهم من وظائفهم وإحلال العرب مكانهم، وعبر سياسات شتى كحال مشروع "الحزام الأمني "، والذي كان عَصبه تعريب محيط كركوك، وتخفيف الحضور الكردي فيها. وعلى الرغم من تغيير اسمها زمن صدام حسين إلى محافظة "التأميم"، وما رافقها من إصرار على التعريب، وحسم موضوع هويتها التعددية لصالح الهوية العربية، بقيت كركوك بالنسبة للحركة القومية الكردستانية في مصاف المنطقة "المقدّسة" التي لا يمكن التفريط بها، كذلك يعتبر الدفاع عن كردستانية هذه المدينة الكلمة المفتاحيّة في الدعاية الحزبية الكردية. وعليه، لن يكون غريباً فهم المقولات التي تمجّد كركوك لتصفها بـأنها "قدس الأكراد" أو " قلب كردستان".
في إزاء الإصرار الكردي هذا، تجاه "كردستانية" كركوك، تظهر المزاعم التركمانية حول
في الأثناء، لم تكن (مزحة) تلك العبارة التي أطلقها رئيس إقليم كردستان، مسعود البرزاني، حين أفصح عمّا يجيش في قلوب الأكراد بأن "الحدود ترسم بالدم"، فالدم المسال في معارك صد تنظيم داعش، ومن ثم معارك دحر التنظيم والإجهاز عليه، ليست مجانيةً بهذا المعنى، ولا يحتاج الأمر إلى شرحٍ مستفيض، حتى نعي منطوق هذه العبارة، فعلى وقع مشاركة البيشمركة الكردية في الحرب على "داعش"، طفت إلى السطح مسألتان رئيستان، في ما خص الاستثمارات المتأتية من هذه الحرب: الأولى، إصرار كردستان العراق على نيل الاستقلال، وشحذ الهمم الدبلوماسية والسياسية في عواصم عربية خليجية وغربية عديدة في هذا الاتجاه، والثاني "استرداد" أكبر مساحة ممكنة من المناطق "المتنازع عليها" التي حددتها المادة 58 من قانون إدارة الدولة العراقية زمن الاحتلال الأميركي للعراق. وبذا، يمكن فهم توقيت رفع العلم الكردي في كركوك.
أصاب قرار محافظ كركوك، الدكتور نجم الدين كريم، رفع العلم الكردي فوق المرافق والدوائر الرسمية، بغداد بصدمةٍ كبيرة، اضطرت الأخيرة إلى استصدار قرارٍ من برلمانه بعدم دستورية هذا العمل، والمطالبة بإنزال علم إقليم كردستان، لكن قرار المحافظ، ومن خلفه الأحزاب الكردستانية (الاتحاد الوطني والديمقراطي وحركة التغيير) يشي بالجديّة، وصعوبة التراجع عن هذه الخطوة التي تدخل في سياق إستراتيجية كردستانية قد يصح تسميتها غنائم حرب "داعش" وتحقيق المكاسب على الأرض، وفرض سياسة الأمر الواقع بديلاً عن منهج الإقليم السابق الموسوم بالفشل، والذي كان قوامه الحوار والتفاوض مع المركز من دون جدوى.
في المقابل، يعكس رفض البرلمان العراقي رفع العلم الكردي، وبتوافق سنيّ – شيعي، في مرآةٍ أكبر، توافق طهران وأنقرة على خطورة هذه الخطوة الكردية. وإذا كانت تصريحات طهران الرسميّة أكثر هدوءاً كعادتها، حين تزن الأمور بميزان مصالحها الحيوية، فثمّة إشاراتٌ بالغة الوضوح على أن التحاق كركوك بركب كردستان العراق يعني أن طهران قد تستفيد من خطوط النفط التي قد تعبر أراضيها في موازاةٍ لتلك التي تستفيد منها تركيا، الأمر الذي يفسّر الغضب التركي المتنامي من التصرف الكردي أخيرا، وتعبيرها بالرفض المطلق لمثل هذه الخطوة، ودائماً عبر تذرّعها بحماية الأقلية التركمانية في كركوك، فتركيا لا تزال متمسكةً بالاتفاقيات التي وقعتها الحكومة التركية مع سلطة الانتداب البريطاني في العراق عام 1926، ثم مع الحكم الملكي في بغداد عام 1946، إذ لا يجوز، بموجب الاتفاقيتين، سلخ مدينتي الموصل وكركوك عن العراق. بكلماتٍ أخرى، تشير تركيا إلى إمكانية التدخل في حال أصر الأكراد على ضم كركوك، وإذا كان الغضب التركي يتدثر بغطاء "حماية التركمان"، فإنه، في جوهره، خشية على الموارد الثمينة التي تؤمنها خطوط نفط كركوك للدولة التركية.
تثير أزمة كركوك عاصفةً من التوقعات، يذهب معظمها إلى احتمال وقوع صدام بين الجيش
لكن الثابت أن ثمّة برميل بارودٍ في كركوك، وهو قابل للانفجار في وقتٍ لاحق، ويبقى فتيل الأزمة ممدّداً على طاولة التفاوض بين الإقليم وبغداد حول المناطق المتنازع عليها، ومن ضمنها كركوك، فإما أن يصار إلى البحث عن حلول سياسية جديّة، تجنب كركوك والعراق الدخول في نفق مظلمٍ جديد، أو تبقى الحكمة الكردية المعاصرة "الحدود ترسم بالدم" سارية المفعول. وفي الحالتين، إذا كان رفع العلم يمثّل مشكلة حاضرة، فإن إنزاله يمثّل مشكلة لاحقة، وبين المشكلتين تغفو كركوك الآن.
دلالات
مقالات أخرى
19 فبراير 2023
10 ابريل 2022
17 فبراير 2022