الزلزال إذ يهز المشهد السياسي التركي
رغم فداحة الكارثة الإنسانية التي تسبّب بها زلزال كهرمان مرعش، إلا أنّ الساسة الأتراك في طريقهم إلى جعل الزلزال من أدوات التنافس الانتخابي. وتتطلّع المعارضة إلى تكثيف حضورها داخل المشهد السياسي المضطرب في البلاد، عبر إلقاء اللائمة على الحكومة لجهة مسؤوليتها التقصيرية وعدم تأهّبها للزلزال.
وفي ما يشبه لعبة الكراسي الموسيقية، غيّرت الحكومة والمعارضة من موقفهما حول موعد الانتخابات. الحكومة التي قدّمت موعد الانتخابات إلى 14 مايو/ أيار بدل 19 يونيو/ حزيران باتت تطالب بالتأجيل إلى أبعد مدى، بينما المعارضة التي كانت مع عقد الانتخابات في موعدها الأسبق، تطلب الآن تعجيل إجرائها إلى الموعد الذي حدّده الائتلاف الحكومي في مايو/ أيار.
فرض الإرباك السياسي والاستقطاب الاجتماعي الحادّان على الحكومة وحزب العدالة والتنمية اللجوء إلى الخطاب العاطفي في تبريرهما إرجاء الانتخابات إلى أبعد مدىً ممكن. وأنّ الشرط الذي فرضته الكارثة يلزم الأحزاب التفكير في المنكوبين والجثث العالقة تحت الأنقاض، وليس إلى سحب المواطنين إلى صناديق الاقتراع.
تعجيل الانتخابات قد يربك القاعدة الشعبية لأردوغان
يتيح التأجيل للرئيس، أردوغان، التخفيف من حدّة الغضب الشعبي، وبالتالي تفنيد روايات المعارضة عن مسؤولية الدولة التقصيرية للحكومة وعدم تأهّبها للزلزال، وهو ما تدركه المعارضة، إذ إنّ قوّة الخطاب الشعبوي للفريق الحكومي والحمولة العاطفية في خُطب الرئيس قد تتفوّق على مجمل ما ستستعرضه أحزاب المعارضة من دراساتٍ وتحذيراتٍ ومخاوف متصلة بالزلزال، أو التذكير برفضها سياسات الإعفاء الحكومية على مخالفات البناء الذي أبدته تلك الأحزاب قبل وقوع الكارثة، وبالتالي، يعني التعجيل، في مقامٍ ما، منع الحكومة من التقاط أنفاسها.
وتدرك المعارضة أنّ خسارة "العدالة والتنمية" مضاعفة في هذه الظروف، ذلك أنه فوق تحميلها المسؤولية عن الأوضاع الاقتصادية المتردّية، وعدم تأهيل البنية السكنية لزلزال كبير، فإنّ سبعاً من أصل عشر ولايات تضرّرت مباشرة من الزلزال كانت ضمن الولايات المؤيّدة لأردوغان، علاوة على تقديرات اتحاد الشركات والأعمال التركي بمبلغ 84.1 مليار دولار خسائر من الزلزال، والذي سيعني إضافة ثقلٍ آخر على كاهل الاقتصاد التركي.
مجموع هذه الأوضاع يعني أنّ تعجيل الانتخابات قد يُربك القاعدة الشعبية للرئيس التركي. تراهن المعارضة على النص الدستوري الذي لا يمنح البرلمان فرصة تأجيل الانتخابات، إلّا في حالة ضيّقة نصت عليها المادة 78 من الدستور. إذ يستطيع البرلمان تأجيل الانتخابات عاما إذا كانت تركيا في حالة حرب، فيما يبقى قرار التأجيل متوقفاً على ما سيقوله المجلس الأعلى للانتخابات حال تعذّر إجراء الانتخابات، بيد أنّ حيادية المجلس تحتّم عليه عدم المضي في الاتجاه الذي يخالف الدستور، ويؤدّي إلى تعزيز الانقسام الوطني. كما أنّ تعديل الدستور لصالح منح الرئيس صلاحية تأجيل الانتخابات يحتاج إلى موافقة الثلثين (400 نائب)، وهو النصاب الذي لا يتوفر للائتلاف الحكومي ذي الـ333 مقعداً.
على أنّ مشكلات المعارضة (طاولة الستة) تبدو قائمة حتى اللحظة أيضاً، فبعيداً عن أنّ إلحاحها على إجراء الانتخابات في الموعد المحدّد سيعني أنها غير مكترثةٍ بأوجاع المنكوبين، وسيسيء إلى سمعتها، وسيُبرزها طرفاً طامحاً إلى السلطة بأي ثمن، وفي أي وقت، فإنها إلى ذلك أمام معضلة اختيار مرشح الرئاسة.
الساسة الأتراك في طريقهم إلى جعل الزلزال جزءاً من أدوات التنافس الانتخابي
ويبدو حزب الشعب الجمهوري بوصفه "الأخ الأكبر" في ائتلاف المعارضة مصرّاً على ترشيح زعيم الحزب، كمال كليجدار أوغلو، فيما ترى زعيمة حزب الجيد، ميرال آكشنار، أن عمدة إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، يمثّل خياراً أكثر توافقية، رغم أنّ الأخير مثقلٌ بدعاوى قانونية تحول دون ترشّحه للرئاسة، فضلاً عن أنّ مشكلة هذين الحزبين من حزب الشعوب الديمقراطي المؤيّد للأكراد ما تزال قائمة، ذلك أن كليجدار أوغلو يرى في ناخبي الحزب "رمانة الميزان" المطلوبة لانتخاب رئيس للبلاد، فيما ترى آكشنار أنّ أي توافق مع الحزب الكردي مقدّمة لتآكل شعبية حزبها القومي اليميني.
وتتوجّس المعارضة من التأجيل لأسباب إضافية، إذ يمتلك الرئيس سلطة الإنفاق العام على متضرّري الزلزال طبقاً لحالة الطوارئ المعلنة، ما يعني إمكانية تجسير الهوّة بين حزب العدالة والتنمية والطبقات الاجتماعية الفقيرة والوسطى المتضرّرة، ناهيك عن ترسانة شركات العقارات والمقاولات المقرّبة من الحزب الحاكم التي بإمكانها القيام بخطوات إسكان سريعة للمتضرّرين، وقد تساهم هذه الإجراءات السريعة في التقليل من أهمية ورقة المعارضة المتمثّلة باتهام الحكومة بإهمال ضوابط البناء وسياسة الإعفاءات عن مخالفات البناء مقابل رسوم مالية، وبالتالي عودة الصراع السياسي إلى نقطة التوازن السابقة على الزلزال وسحب الأفضلية من يد المعارضة.
في الأثناء، تطوف أشباح زلزال 1999 في تركيا، حين أودى بحكومة بولنت أجاويد، وحملت إلى السلطة حزب العدالة والتنمية. حدّة التشابه بين الحقبتين تذكّر بالدرس الذي يجب أن تتبعه الحكومة لتلافي مصير أجاويد، فالاقتصاد زمن حكمه كان قد ذوى إلى مستوياتٍ قياسية، وخسرت الليرة 50% من قيمتها أمام الدولار، غير أنّ الزلزال كان العامل الأشد بروزاً في خسارته الانتخابية، ولعل استلهام المعارضة تجربة ما حصل قبل 24 عاماً، يحفّز أردوغان أيضاً لتلافي الأخطاء التي انتابت شعبية أجاويد وأدائه خلال الكارثة وما بعدها.