اليوم العالمي للرجل

29 نوفمبر 2018

(Getty)

+ الخط -
اليوم العالمي للمرأة: في المؤتمر الدولي للنساء الاشتراكيات، المنعقد عام 1910 في شتوتغارت، اقترحت المناضلة الاشتراكية الألمانية، كلارا زدكن، فكرة الإعلان عن يوم عالمي للمرأة، من منطلق نضالي عمالي، كانت أهواؤه رائجة في ذاك الوقت. تحوّلت الفكرة إلى تقليد سنوي بعد إضراب العاملات الروسيات في سان بطرسبورغ في الثامن من مارس/ آذار 1917. استعادت القفزة الهائلة التي عرفتها النسوية الغربية في سبعينات القرن الماضي هذا اليوم، وحوّلته إلى "اليوم العالمي للمرأة"، لتعترف به الأمم المتحدة بعد ذلك بسبع سنوات، وليصبح تقليداً راسخاً في مذكرات وبرامج نساء العالم كله بجمعياته وشخصياته وأفراده.
اليوم العالمي للرجل: بعد مبادرة كلارا زتكن بتسع وثمانين سنة، عام 1999، يبادر أستاذ تاريخ ترينيدادي (ترينيداد، البحر الكاريبي)، اسمه جيروم تيلوسينغ، إلى الإعلان عن اليوم العالمي للرجل. حتى الآن، انضم إلى هذا "اليوم" أكثر من ستين منظمة "رجالية"، غالبيتها في الولايات المتحدة وأوروبا وأفريقيا. والأمم المتحدة لم تعترف به، ولا اليونيسكو.
ربما يحتاج، كما يوم المرأة العالمي، إلى خمسين سنة أخرى، يكون في أثنائها هذا اليوم قد تمكَّن من البقاء على الحياة، إما بتسوياتٍ مع الجنس الآخر، أو بمصالحةٍ، أو بمزيد من الصراع. ولكن البرنامج الذي يستند إليه أصحاب هذا "اليوم" مثير للاهتمام، إذ يدعو إلى وضع مزيد من الضوء على التمييز ضد الرجال، وتشجيع المساهمات والإنجازات الإيجابية التي يحققها رجال، والاحتفال بدور الرجل في قلب جماعته، في بيئته، في العائلة والزواج وحياة الأطفال، التفكير بمسألة صحة الرجال، الجسدية والنفسية، من النواحي الإجتماعية 
والعاطفية والجسدية، وتحسين العلاقات بين الجنسين وتشجيع المساواة في الاتجاهين. ومن الأنشطة المقرَّرة لهذه السنة، ينظم اليوم العالمي للرجل فعاليات، سيمينيرات، طاولات مستديرة، محاضرات ونقاشات، معارض فنية، نشاطات في المدارس، برامج إذاعية وتلفزيونية. وهو يستعد للإعلان عن بطل هذه السنة، يعرِّفه بأنه "بطل الحياة اليومية"، أو "الرجل الذي يؤمِّن القوت لعائلته بطريقة شريفة ومشرِّفة، أكان عاملاً أم معلماً أم طبيب أسنان".
ما الذي حصل بين العامين 1910 و1999، حتى أصبح للرجال مطالب بعدم التمييز؟ وحتى أصيبت نبرتهم بسهام النسوية نفسها؟ حصلت ثورة نسوية هادئة غير قاتلة في بداياتها، ثم تدرّجت وتسارعت خطاها في العقدين الأخيرين، حتى استطاعت أن تهزّ أركان الصرح البطريركي الذي قامت عليه البشرية منذ آلاف السنوات. أزاحت النساء الرجال من مواقعهم السلطوية والرمزية والمهنية، حصلن على مطالب كانت تتطور كلما حقّقت بعضها. دعست الثورة النسوية في التاريخ مثل جرافة بدائية، تطحن العقليات، تدينها، تشكّك بإنسانيتها، تقلب موازينها... وعلى الرغم من أن مشكلاتها ما زالت غالبيتها تعود إلى ما قبل هذه الثورة، الأجور، العمل، مواقع القرار إلخ.. إلا أن ما حققته النساء على الصعيدين، الرمزي والمعياري، يفوق بدرجاتٍ ما حققنه على الصعيد الواقعي. وقد تكون "إدانة الذكورة" أشهر اللازمات المرافقة لهذا الانقلاب في المفاهيم؛ وهذه الإدانة عابرة لكل الأدبيات النسوية، كل الإعلام المرئي والمكتوب المعني بقضاياها؛ وتبلغ أحياناً حدّ الابتذال، أو عدم المطابَقة. وفي العالم الأكاديمي، أنشئت فروع الدراسات النسائية، أو الدراسات "الجندرية" المتخصّصة بفكْفَكة النظام البطريركي وبُناه، فتفوقت النساء في الربط الشديد بين نظريتهن وممارستهن أكثر من أي حزبٍ تاريخي، أكثر من أي تيار، ثورياً كان أم رجعياً.
هذا وكله من الانتصارات المبهْرة للنساء وضع الرجال في موقع حرج لم يعهدوه من قبل؛ في العهد البطريركي الصافي، الما قبل نسوي. كان الرجل مرتاحاً لذكورته، شاكراً ربه أنه لم يَلِد أنثى، واثقا من دوره، من وظيفته في المجتمع وفي السياسة، متفاخراً بهويته الجنسية حتى عنان السماء، فارضاً نصوص الذكورة المقدّسة من دون أرق. أما اليوم، فأقل ما يقال عنه، أي الرجل، أنه يعيش أزمة هويته الجنسية. النظرة العامة والخاصة، التي تطاول ذكوريته، بل رجوليته، ترميه بأبشع الصفات: الاحتكار، التسلّط، الأنانية.. إلخ. خلال العقود التسعة من تحرّر المرأة، تطوَّر الإحساس بالوهن، بالاضطراب، حول هذه الهوية، إذ أضيف إلى أنانيته وتجبّره، عنفه الجنسي والجسدي. وقد لا نكون بلغنا ذروة هذه الحركة التاريخية للنساء؛ فالمطالب المتحقّقة تولِّد مطالب جديدة هي ابنة هذا التحقّق.
فالنساء لم تتحقّق كل أمنياتهن. وهن ماضياتٌ نحو أكثر. والرجال لم يخسروا كل مواقع نفوذهم، ولكنهم مثل عزيز قوم ذل: لا يفهمون بالضبط ما يحصل حولهم، بل في قلب عواطفهم الحميمة. الدنيا تهتز تحت عروشهم، وهم بطبيعة الحال متمسّكون بالعالم القديم، كلٌ بطريقته، حسب قدراته وبيئته ونظرته. مثل كل الثورات، خلقت النسوية اضطراباتٍ عميقة في المسالك والذهنيات، لن تستقر، في العالم المؤقت الذي تتصوّره. ولكن هذا العالم المؤقت ليس له عمر، على ما يبدو. قد يمتد عقوداً، وربما قرونا، إذا استطاع النظام البطريركي أن يحمي نفسه؛ ولكن هذا مستبعد، فهو، أي النظام البطريركي، مشغولٌ بمنافسة الذكور بعضهم على الغلبة في حروبٍ مفتوحة، لن تجد النسوية في نهايتها غير الأطلال.
في النظام البطريركي، لا يتريس الرجال على النساء ويضطهدونهن وحسب، إنما يتريسون 
الرجال ويضطهدونهم. وإلا انهارت سلطاتهم القائمة على الغلبة والغنيمة. النسويات في بداية عهدهن، قبل انتصاراتهن الساحقة، كن أكثر ميلاً إلى اعتبار معركتهن مشتركة مع الرجال. أما الآن، بعد الانتصارات، صارت النسوية مثل كل منتصر جديد، تكشّر عن أنيابها بوجه الرجل المهزوم، وترميه بأبشع الصور: الظالم، المعتدي، الشرس، وأخيرا المتحرّش المغتصب (بعد # مي تو). ومع سهولة التعميم، والنيو ميديا، ماذا عسى لرجلٍ لا يملك الكلمات، ولا الرموز، ولا الموقع، للردّ المجزي، غير أن يعنّف أكثر، تأكيدا على هذه الصورة المرمية بوجهه، وإمعاناً في الانتحار المعنوي من أجل ذكورته الغالية؟ الرجال أيضاً تعساء، قلقون، ضعفاء، مهما عرضوا من عضلات.
في منطقتنا، لم يمِل بعد ميزان النظام البطريركي لصالح النساء، لكن الثقافة المعوْلمة أدخلت الشعارات النسوية إلى صلب لغتها، بعد الانتصارات النسوية. وباتَ العالم الذهني لمواطنينا أكثر انقساما من قبل حول الأشواق التي تولدها تلك الشعارات، والحماسة الشديدة لها، مقابل بؤس البطريركيتَين، السياسية والدينية، الصلبة، المقدسة، المتحكّمَتَين بحياة النساء ومماتهن. وهذا لا يعني أن الذكورة عندنا، ومعها الرجولة، معافاة، بألف خير... فلا يغُرَّنَّكَ مغالاتها في نفخ عضلاتها التي لا تعني غير إضطراب واهتزاز بالثقة بالنفس.
وأنا أقرأ بيان اليوم العالمي للرجل، تذكّرتُ ما كنا نقوله، نحن نسويات السبعينات، متوسّلات رحمة الرجل، اعتقاداً منا بأننا بذلك إنما "نفتح" عقله: بـ "ألا تفكر بأن لديكَ أُما وأختا وزوجة وابنة وبنات عم وأخوال..؟!". تذكّرتُ هذا القول، وقلتُ في نفسي ربما هناك رجل يسألها في سرّه: "ألا تفكرين بأن لديكِ أبا وأخا وابنا وزوجا وأبناء عم وأخوال..؟". سؤال لحظة ضعف، لم يعد يتردّد على الألسنة النسوية، لكنه قد لا يبقى طويلاً مسكوتاً عنه في لغة الرجال.
دلالات