11 نوفمبر 2024
الهجرة والمتاجرة بالبشر والعبودية في بلداننا
أوردت وكالات الأنباء العالمية قبل أيام أن القضاء الفرنسي أصدر حكما يقضي بسجن شرطي فرنسي ستة أشهر، بسبب صفعة وجهها إلى مهاجر سري في أثناء اقتياده إلى المحكمة. وتلقت الأوساط الحقوقية هناك الخبر بارتياحٍ كثير، خصوصا في ظل تصاعد موجات كراهية الأجانب في أكثر من بلد أوروبي، لأسباب غدت معروفة. يصدر هذا الحكم ليثبت، مرة أخرى، أن للمهاجرين السريين حقوق مستمدة من منظومة حقوق الإنسان عموما، وأن الهجرة "غير الشرعية" لا تسقط تلك الحقوق، علما أن فرنسا لم توقع على الاتفاقية الدولية لحماية حقوق المهاجرين وأفراد عائلاتهم المعروفة باتفاقية 18 ديسمبر. وللمفارقة، يصدر هذا الحكم والمهاجرون السريون يتعرّضون للبيع في سوق "العبيد" في ليبيا، ولا يدل هذا الأمر على مجرد انحراف معزول حول بعض من تدفق الهجرة إلى متاجرة بالبشر، بل هو أعمق بكثير. إنها ممارسات تفضح قيما مترسخة في ثقافة مجتمعية، ما زالت مشدودة إلى العبودية نمط إنتاج وعيش في أوساط عديدة من مجتمعاتنا العربية، يدعمها وهم الثروة، والبترول تحديدا الذي يجيز لهؤلاء، حسب اعتقادهم، استعباد الناس، وإنْ بأشكال مختلفة. إنها مدن الملح التي طفت في أرواح بتعبير عبد الرحمن منيف.
قد يكون من التعسف المقارنة بين الحالة الفرنسية تلك وما يلاقيه المهاجرون، الشرعيون وغير الشرعيين الذين استقروا في دولنا العربية، أو عبروا أراضيها، ولكن استحضار السياق مهم، حتى نعرف أي مسافة تفصلنا عن الحداثة والمساواة وقداسة الذات الإنسانية، وما الذي دفع بنا، نحن العرب، إلى تلك الانتكاسات الخطيرة. ففي مواجهة تلك التدفقات القادمة في معظمها من
دول أفريقيا ما بعد الصحراء، قامت دول عربية، وخصوصا المغاربية، في بداية الألفية، بتعديل ترسانتها التشريعية المتعلقة بالهجرة، وشددت قوانينها، في العامين 2003 و2004، حتى تعرب عن التزامها بمشاركتها في الجهد الدولي لمكافحة الهجرة السرية، وهي قوانين مستوحاة من الترسانة الجديدة لقوانين مكافحة الإرهاب التي صدرت هي أيضا بعد أحداث "11 سبتمبر" في 2001. وصبّت جام عسفها على المهاجرين، وخصوصا العابرين منهم، وأغلب هؤلاء من الأفارقة عموما. تتحمل دول المغرب العربي ضغطا هجريا مزدوجا من أبناء تلك الدول، ممن أحبطتهم سياسات التشغيل والتنمية الفاشلة. والمصدر الثاني من العابرين الأفارقة الراغبين في الالتحاق بالدول الأوروبية، وتونس والمغرب الحالة الأبرز عن ذلك، أما ليبيا فظلت دولة عبور.
جعلت تلك السياسات المتشددة واستعمال الهجرة ورقة للابتزاز من بعض الدول الأوروبية، أو المغاربية، من المهاجرين يسقطون في كماشة مخيفة، لأنهم الحلقة الأضعف، فهم الأكثر هشاشةً اجتماعية وقانونية. ولكن علينا أن نستحضر الأسباب السياسية الأعمق التي حولت هؤلاء إلى ضحايا للمتاجرة بالبشر. وهي عموما تتعلق بالحرص الأوروبي على تحويل قارتهم قلعة حصينة لا تخترق، ويموت على حدودها سنويا آلاف البشر غرقا، فالاتحاد الأوروبي يتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية. ولعل تركيز النقد على ليبيا قد يعفيه من المسؤولية السياسية والأخلاقية، إذ لولا تلك التضييقات المسلطة على المهاجرين لما أمكن أن يتم استعباد المهاجرين والمتاجرة بهم، غير أن هذا العامل الحاسم لا يعفينا من الإجابة عن السؤال المحرج: كيف أمكن أن ينقض أشقاؤنا الليبيون، حتى ولو كانوا فئة قليلة، على هؤلاء المهاجرين الأفارقة، ويحولوهم عبيدا يتم بيعهم بالمزاد العلني.
هناك من شكك في التقارير التي بثتها وسائل إعلام أجنبية، وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد يكون ذلك من باب الانتصار لوطنه أو عروبته أو دينه، في حين أن الأمر، في هذا الموقف، يقتضي أن ننتصر إلى إنسانيتنا قبل كل شيء، فكل من زار ليبيا وبعض الدول العربية قبل الثورات، أو بعدها، يعرف أن المهاجرين يفتقدون، في الدول نفسها، لأبسط الحقوق الإنسانية، وأن ممارسات مهينة أقرب إلى العبودية منتشرة هناك.
والغريب أن هؤلاء يخترقون، في رحلتهم الطويلة والمضنية، قبل أن يصلوا إلى دول المغرب
العربي، عشرات الدول، ولا يتعرضون لتلك الممارسات التي تصادر إنسانيتهم. علينا أن نستعيد تراث العبودية ومسالك التجارة فيهم، والتي توقفت تدريجيا، وبأشكال مختلفة، عند أواخر القرن التاسع (ما زالت بعض ممارساتها قائمة إلى حد ما في بعض الدول). وكانت ليبيا إحدى المحطات المهمة، ولعل ذاكرة هذا الشعب، بالمعنى الأنثروبولوجي، لم تصفِّ ذلك التراث نهائيا، خصوصا أن الدولة "الليبية الحديثة" لم تشهد سياساتٍ ثقافية واجتماعية عميقة، إذ لا تلغي العبودية بمجرد قوانين، بل بتغيرات قيمية عميقة، فالنظام التربوي والثقافي ما زال ثابتا، يراوح مكانه القديم، ذلك أن القاموس اللغوي المتداول، تبين الفئات الشعبية الليبية وغيرها أنه ما زال يستعمل مفردات العبد لنعت الأشخاص سُمر الجلدة، فضلا عن ممارسات يومية أقرب للسخرة والعبودية في مجال العمل. يحدث هذا وقائد هذا البلد السابق، معمر القذافي، ظل يردد عقودا وهم الانتماء الأفريقي.
كيف لنا تصفية تلك التركة الثقيلة من ثقافة العبودية وممارساتها التي عرفناها، كما فعلت بقية دول العالم خلال قرون طويلة؟ لا توجد وصفة سحرية، ولا استعصاء يمنعنا من ذلك. هناك تشريعات تلغي كل أشكال التمييز العنصري، وتجرّم صراحة العبودية، وهناك نظام تعليمي وثقافي يعزّز قيم المساواة والإنسانية. لا شك في أن الأمر يتعلق بتحولات جيلية بطيئة، لكنها ضرورية.
وسيحتقل العالم في 18 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، باليوم العالمي للمهاجرين، إحياء لصدور الاتفاقية الدولية لحماية المهاجرين، وأعضاء عائلاتهم، وهي الاتفاقية التي لم تصادق عليها جل الدول العربية، وخصوصا الدول التي تستقبل ملايين المهاجرين على أراضيها، استقرارا أو عبورا.
قد يكون من التعسف المقارنة بين الحالة الفرنسية تلك وما يلاقيه المهاجرون، الشرعيون وغير الشرعيين الذين استقروا في دولنا العربية، أو عبروا أراضيها، ولكن استحضار السياق مهم، حتى نعرف أي مسافة تفصلنا عن الحداثة والمساواة وقداسة الذات الإنسانية، وما الذي دفع بنا، نحن العرب، إلى تلك الانتكاسات الخطيرة. ففي مواجهة تلك التدفقات القادمة في معظمها من
جعلت تلك السياسات المتشددة واستعمال الهجرة ورقة للابتزاز من بعض الدول الأوروبية، أو المغاربية، من المهاجرين يسقطون في كماشة مخيفة، لأنهم الحلقة الأضعف، فهم الأكثر هشاشةً اجتماعية وقانونية. ولكن علينا أن نستحضر الأسباب السياسية الأعمق التي حولت هؤلاء إلى ضحايا للمتاجرة بالبشر. وهي عموما تتعلق بالحرص الأوروبي على تحويل قارتهم قلعة حصينة لا تخترق، ويموت على حدودها سنويا آلاف البشر غرقا، فالاتحاد الأوروبي يتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية. ولعل تركيز النقد على ليبيا قد يعفيه من المسؤولية السياسية والأخلاقية، إذ لولا تلك التضييقات المسلطة على المهاجرين لما أمكن أن يتم استعباد المهاجرين والمتاجرة بهم، غير أن هذا العامل الحاسم لا يعفينا من الإجابة عن السؤال المحرج: كيف أمكن أن ينقض أشقاؤنا الليبيون، حتى ولو كانوا فئة قليلة، على هؤلاء المهاجرين الأفارقة، ويحولوهم عبيدا يتم بيعهم بالمزاد العلني.
هناك من شكك في التقارير التي بثتها وسائل إعلام أجنبية، وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي. وقد يكون ذلك من باب الانتصار لوطنه أو عروبته أو دينه، في حين أن الأمر، في هذا الموقف، يقتضي أن ننتصر إلى إنسانيتنا قبل كل شيء، فكل من زار ليبيا وبعض الدول العربية قبل الثورات، أو بعدها، يعرف أن المهاجرين يفتقدون، في الدول نفسها، لأبسط الحقوق الإنسانية، وأن ممارسات مهينة أقرب إلى العبودية منتشرة هناك.
والغريب أن هؤلاء يخترقون، في رحلتهم الطويلة والمضنية، قبل أن يصلوا إلى دول المغرب
كيف لنا تصفية تلك التركة الثقيلة من ثقافة العبودية وممارساتها التي عرفناها، كما فعلت بقية دول العالم خلال قرون طويلة؟ لا توجد وصفة سحرية، ولا استعصاء يمنعنا من ذلك. هناك تشريعات تلغي كل أشكال التمييز العنصري، وتجرّم صراحة العبودية، وهناك نظام تعليمي وثقافي يعزّز قيم المساواة والإنسانية. لا شك في أن الأمر يتعلق بتحولات جيلية بطيئة، لكنها ضرورية.
وسيحتقل العالم في 18 ديسمبر/ كانون الأول المقبل، باليوم العالمي للمهاجرين، إحياء لصدور الاتفاقية الدولية لحماية المهاجرين، وأعضاء عائلاتهم، وهي الاتفاقية التي لم تصادق عليها جل الدول العربية، وخصوصا الدول التي تستقبل ملايين المهاجرين على أراضيها، استقرارا أو عبورا.