قفزت محافظة إدلب، شمال غربي سورية، إلى واجهة المشهد السوري من جديد، بعد أن أقام الجيش التركي نقطة مراقبة أخيرة، من المفترض أن تحول دون اندلاع اشتباكات جديدة بين المعارضة السورية، التي فقدت كل معاقلها في دمشق وريفها وفي ريف حمص الشمالي، وسط البلاد، وبين قوات النظام والمليشيات التابعة لها، في سياق تفاهمات أستانة التي حولت سورية إلى مناطق نفوذ للمتنافسين الإقليميين والدوليين. وتشكل محافظة إدلب، التي تتاخم تركيا من الجنوب، أهمية قصوى للحكومة التركية، خصوصاً أن المحافظة باتت خزاناً بشرياً هائلاً، وبرميل بارود من المرجح ألا تقف تداعيات انفجاره عند الحدود السورية.
وأقام الجيش التركي، أمس الأربعاء، آخر نقطة له في جبل اشتبرق في ريف مدينة جسر الشغور الغربي في ريف إدلب، عقب قيامه أخيراً بإقامة النقطة 11 في قرية شير مغار قرب جبل شحشبو في ريف حماة الغربي، بغرض وقف الأعمال القتالية ومراقبة وقف إطلاق النار في تلك المناطق. وأشارت مصادر محلية إلى أن رتلاً للقوات التركية، يتألف من 50 آلية من مصفحات ودبابات وناقلات جند ومعدات لوجستية، دخل الأراضي السورية من معبر كفرلوسين بريف إدلب الشمالي قرب مدينة سرمدا، وتوجه لتثبيت نقطة مراقبة فوق جبل اشتبرق بريف إدلب الغربي، ليطل على مدينة جسر الشغور وسهل الغاب والريف الشمالي للمدينة.
وكان الثلاثي الضامن لاتفاق وقف إطلاق النار في سورية، روسيا وتركيا وإيران، اتفق في مفاوضات أستانة على تحويل محافظة إدلب، شمال غربي سورية، إلى منطقة "خفض تصعيد"، وهو ما خوّل الجانب التركي إنشاء 12 نقطة مراقبة على الحدود الجغرافية لهذه المنطقة التي حددتها اتفاقات مسار أستانة، وتضم أيضاً جانباً من ريف حلب الغربي ونقاطاً في ريف محافظة اللاذقية الشمالي قريبة من الحدود السورية التركية. وكان الجيش التركي بدأ بإنشاء نقاط المراقبة داخل سورية وعلى حدود منطقة "خفض التصعيد" الرابعة في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بدءاً من منطقة صلوة بريف إدلب الشمالي، ومن ثم نقطة الشيخ عقيل في ريف حلب الغربي، ومن ثم نقطة الشيخ بركات، غرب حلب، والنقطة الرابعة كانت في تلة العيس في ريف حلب الجنوبي الغربي، والخامسة على تل الطوقان في ريف إدلب، ومن ثم الصرمان، ونقطة تل الطامورة في منطقة عندان في ريف حلب الشمالي الغربي، ومن ثم نقطة الزيتونة في جبل التركمان في ريف اللاذقية الشمالي.
وكان مبعوث الرئيس الروسي لشؤون التسوية السورية، ألكسندر لافرينتيف، أعرب عن أمله في أن تساعد تركيا بلاده على تحويل إدلب إلى منطقة سلمية. وقال لافرينتيف، في المؤتمر الصحافي بعد الجولة التاسعة من مباحثات أستانة حول سورية أول من أمس: "في ما يخص منطقة خفض التصعيد في إدلب، نأمل بمساعدة زملائنا الأتراك الذين التزموا بتوفير الاستقرار والأمن في هذه المنطقة". وأشار إلى أن "أهم شيء هو منع المواجهات الجديدة المحتملة بين المعارضة، بمن فيها المسلحون المتشددون في إدلب، وبين القوات الحكومية"، وفق قوله، موضحاً أن 12 نقطة مراقبة تركية ستقام حول إدلب لتمنع الأعمال العدوانية ضد قوات النظام السوري.
من جانبه، أعرب رئيس وفد المعارضة السورية المسلحة إلى مباحثات أستانة، أحمد طعمة، عن أمله في أن تتحول مدينة إدلب من منطقة "خفض تصعيد" إلى منطقة وقف إطلاق نار، محذراً من أن أي اجتياح للمدينة سيؤدي إلى كارثة إنسانية. ويعد الوضع العسكري والبشري معقداً في محافظة إدلب، التي باتت أهم معقل للمعارضة السورية، إثر اضطرار غالبية مقاتلي المعارضة للتوجه إليها، خصوصاً من دمشق وريفها، ومن حمص، كما أنها معقل بارز لفصائل الجيش السوري الحر، خصوصاً "جبهة تحرير سورية"، التي تضم فصيل "أحرار الشام"، و"حركة نور الدين زنكي"، و"فيلق الشام"، و"صقور الشام"، وسواها من الفصائل. لكن إدلب أيضاً أهم معقل لـ"هيئة تحرير الشام"، التي تشكل "جبهة النصرة" نواتها الصلبة، والتي دخلت باقتتال أكثر من مرة مع فصائل الجيش السوري الحر، وحاولت القضاء على الأخير في المحافظة كي تتفرد بالقرار فيها، إلا أنها فشلت، خصوصاً أنها فقدت أي سند شعبي لها، نتيجة فشلها في إدارة المنطقة وفرض إجراءات مشددة على المدنيين من جهة، وعدم صمودها أمام قوات النظام التي تقدمت بدايات العام الحالي على حساب "الهيئة"، واستعادت مطار أبو الظهور العسكري في ريف إدلب الشرقي، والعديد من المناطق الأخرى.
وكانت أوساط المعارضة السورية قد تداولت معلومات، لم تؤكدها جهات رسمية، عن محاولات تركية لإقناع قيادة "هيئة تحرير الشام" بحل التنظيم بشكل نهائي، ومن ثم دمج مقاتليها بـ"فيلق الشام" المدعوم من الجانب التركي لسحب أي ذرائع من قبل النظام وحلفائه لمهاجمة إدلب، ومن ثم القضاء بشكل شبه كامل على المعارضة المسلحة في عموم البلاد وفرض تسوية سياسية تبقي بشار الأسد في السلطة وترسخ الوجود الروسي في سورية. وبات من الواضح أن محافظة إدلب باتت منطقة نفوذ تركي من دون منازع، وفق تفاهمات مع الجانبين الروسي والإيراني في مفاوضات أستانة، إذ تشكل هذه المنطقة أهمية قصوى للأتراك، خصوصاً أنها باتت خزاناً بشرياً، عقب وصول عشرات آلاف المهجرين قسراً والنازحين من مختلف المناطق السورية إلى مدن وبلدات هذه المحافظة. ومن المصلحة التركية أن تحظى محافظة إدلب بجانب كبير من الاستقرار والأمان النسبي، كي لا تتكرر مشاهد النازحين المتجهين إلى تركيا، والتي تضم اليوم نحو 4 ملايين سوري، وهي كما يبدو غير مستعدة لاستقبال المزيد من اللاجئين، وتتشدد في منع عمليات تهريب البشر إلى أراضيها عبر استخدام القوة التي تؤدي إلى مقتل مدنيين يحاولون العبور إلى تركيا.
ومن المتوقع أن تواجه أنقرة صعوبات في إقناع "هيئة تحرير الشام" بحل نفسها، وذوبانها في فصائل أخرى، وهو ما يعني استخدام القوة من قبل فصائل الجيش السوري الحر لتحقيق هذا الهدف، ما يجعل الأوضاع تتأزم في إدلب في ظل ظروف اقتصادية وإنسانية صعبة. كما ستجد أنقرة صعوبة في تفكيك مقاتلي "الحزب التركستاني" القادمين من الصين، الذين يتمركزون خصوصاً في منطقة جسر الشغور في ريف محافظة إدلب، وفي منطقة جبل التركمان في ريف اللاذقية الشمالي، ليس بعيداً عن الحدود السورية التركية.