07 نوفمبر 2024
النساء والسود قوةً ومعضلةً
النساء الأميركيات أولاً، أو النسويات منهن تحديداً، بلغنَ درجةً من القوة، ضيئلة قياساً إلى اليوتوبيا التي يسعَين إليها، الواعدة بالسعادة؛ أي بلغتهن، أعلى درجات المساواة مع الرجال، وفي المجالات كافة. في كلها، وضعن عيونهن ومعاييرهن: فكانت لهن حقوقٌ، وأدوارٌ ونماذج وشخصيات، أدبية سياسية تشريعية، إلى ما هنالك مما يمكن تخيّله. لسنَ هنّ الأوليات من بين الشعوب اللواتي أصعدن امرأةً إلى القيادة السياسية العليا، وهذه الأخيرة ذروة السلطة؛ لكن الدوائر المختلفة، والمتفاوتة، تعجّ بهنّ. وانتفاضتهن الأخيرة، منذ عامين، والمعروفة بشعار "مي تو" (أنا أيضا)، والمجسّدة بسفّاحها المنتج السينمائي، هارفي وينستين، ضارب الأرقام القياسية بالتحرّش والاغتصاب بحق عدد لا يُحصى من الممثلات .. ليست وليدة يومها. إنما سبقتها حركة تحمل الشعار نفسه، "مي تو"، قبل ثلاثة عشر عاما. ومؤسِّسته هي السوداء تارانا بورك، عاملة اجتماعية في الحيّ الأسود الأشهر والأفقر في نيويورك، هارلم، ومع النساء السوداوات المهمّشات، والمعرّضات للعنف الجنسي بأشكاله. وشرارة "مي تو" التي لحقتها، والتي تبارك ضحايا العنف الجنسي، لم يكن لها أن تلتهب بهذه السرعة وهذا الامتداد لو لم تكن مدعومةً من جهاتٍ فنيةٍ وثقافيةٍ وإعلامية، لا بل سياسية أيضا .. ولو لم تكن النساء قد تمكنّ من مواقع تأثير وقوة، ليسا سطحيين ولا جديدين، إنما هما مسجّلان في حوليّات التاريخ الاجتماعي للولايات المتحدة. قوة بلغت حداً أن لغتها وخطابها وإيماءاتها صارت تُعتبر عالمياً من أركان "الصواب السياسي". ولاحظ إلى أية مفارقةٍ تقودنا هذه الحركة: في الوقت الذي تسيطر "أيديولوجياً"، على الألسنة الطامحة إلى المصداقية، تقود النساء، أو تخرج من نساء أميركا حركةٌ تطالب بالقصاص، فلا يمرّ يومٌ من دون أن تتهم إحدى الشخصيات العامة بالتحرّش الجنسي أو الاغتصاب.
الأميركيون السود ثانياً: هم أيضا أصحاب يوتوبيا، تصور السعادة متحقِّقة في كل أوجه المساواة بين البيض والسود. وإذا قستَ بداية العبودية التي ساقتهم من أفريقيا إلى القارة الأميركية، بذاك
الحاضر الذي هم عليه، وحتى إذا قارنتَ بين أوضاعهم بأوضاع السود في بلدان العالم الثالث، عالمنا، فلن تتردّد بالملاحظة: أنهم اجتازوا مراحل ما كان يمكن تصوّرها قبل مئة عام فقط. طبقة وسطى، حقوق قانونية، برامج استلحاق، رئيس أسود، زوجته حفيدة عبيد .. وخطابهم المناهض للعنصرية هو أيضاً صار من صميم "الصواب السياسي". فإذا استثنيتَ دونالد ترامب، وجوقته العالمية، الشعبوية، ولتزايد السود الديمغرافي نصيبٌ في انتخابه، مثلما أسعف باراك أوباما قبله بأعوام .. لو استثنيته إذن، فحتى أعتى العنصريين، في بلادهم كما في بلادنا، يملأون القاعات بفقاعات المساواة والأخوّة بين الشعوب. (أنظر إلى منظر السفير الصيني في نيجيريا، وهو يعتذر من رئيسها من الموجة المعادية للسود، بعد كورونا، في مدينة شانغهاي الصينية).
لا يتوقف التشابه بين الاثنتَين، النسوية والسوداء، عند هذا الحدّ. بل ربما من هذا التشابه تولد تلك الإشكالية التي تطرحها الحركتان. النسوية الأخيرة، المتمثلة بالـ"مي تو"، والتي تلاحق كل بادرة جنسية، أو حركة، أو إشارة، وتحاكمها، وتفضحها، تزيلها من الشاشة أو أي مجال عام آخر .. هذه النسوية، عندما تأخذ مجدها في ملاحقتها المذنبين الجنسيين من بين الرجال، تسير، بجموحها هذا، نحو نْسف قواعد الغرام القديمة، القائمة على الخضوع لإرادة الرجل. وقد تذهب بعيداً، من دون ضجيجٍ كثيرٍ هذه المرّة، في هدم هذه القواعد التي سادت منذ آلاف السنوات. وإذا تجاوزت هذه الحركة حدود الثقافة السينمائية، وجلست صاحباتها على عرش أصحاب القرار، فسنكون بصدد إعدام كل التراث الفني والأدبي والمعيوش الذي قامت هياكله بناء على سيطرة الرجال بالقرار الجنسي؛ وذلك، على مدى متوسط، وتدريجي، قد لا يحظى بالضجّة الإعلامية اللازمة، فيكون تقويضاً لكل ما سبق أن عرفناه عن العشق والهوى والرغبة والغواية.
والمغالاة الراهنة بملاحقة كل من تجرّأ وضع يده على فخذ من يستحليها، أفضت أيضاً إلى ردّة فعل عكسية لنساء ضد حركة "مي تو" بأسرها؛ برسالةٍ وقعتها فنانات وكاتبات غربيات، في مقدمتهن الممثلة الفرنسية كاترين دونوف، أشعلت نقاشاً لن ينتهي قريباً. في الرسالة تنديدٌ بـ"الموجة التطهيرية" لحركة "مي تو"، والتي نالت من أعمال فنية، مثل لوحة "العارية" لإغون شيال، وفيلم رومان بولنسكي "إني أتهم" أو فيلم أنتونيوني "بلو آب" إلخ. ومن الرسالة: "إن أصحاب القرار في مشاريعنا الفنية والأدبية باتوا يطلبون منا أن نخفِّف من رجولية أبطالنا الرجال، أن نتكلم عن الحب والجنس باعتدال، أو أن نتصرّف بما يفضي إلى اعتبار أن الصدمات التي تتلقاها النساء (من الشؤون البديهية)".
الإنتفاضة السوداء أخيرا لم تفعل شيئاً مختلفاً: بدأت باقتلاع تماثيل الشخصيات التي تاجرت بالعبودية القادمة من أفريقيا، أو قوْننتها أو شرعتها. وكان لها صدى قوياً في فرنسا وبلجيكا وبريطانيا. بل في جزيرة المارتينيك أيضا دمّر المتظاهرون تمثال مواطنهم المارتينيكي فيكتور شولدر، أبو استقلال الجزيرة الكاريبية: إنه صحيح انتزع الاستقلال، ولكن ثمة وجوه محلية استقلالية أخرى أكثر جدارةً منه، لم تنلْ قسطها من التأريخ..
وأكثر ما لفتتْ به النظر انتفاضة السود هذه هو السجال الذي أحدثه سحب فيلم "ذهب مع الريح" (1939) الكلاسيكي، الموضوع على قائمة الأفلام العشرة الأهم في تاريخ السينما على منصّة
"أتش. بي . أو". والسبب هنا أيضاً أن الفيلم، وكاتبة الرواية المستوحاة منه (1936)، مارغريت ميتشل، عنصريان، يصوّران العبودية التي كانت قائمة في القرن قبل الماضي (1861)، سعادة للعبيد، وألفة وخدمة. وقد نبشَ المتساجلون من الذاكرة الأدبية روايةً هي على النقيض، لهارييت ستوى، سبقتها بقرن، عنوانها "كوخ العم توم" (1852)، أبطالها رجل وامرأة وابنها من العبيد، ومصيرهم المحزن. وأنتَ تبحث عن الرواية، تكتشف أنها هي أيضاً، تحوّلت إلى فيلم سينمائي، لم يصل إلينا، ولا أثار ضجة غريمه. مع أنه خرج بإنتاج أوروبي مشترك (فرنسي ألماني إيطالي يوغسلافي) وفي عام 1965، عندما كانت الأفلام النضالية تنال حماسةً عاليةً ومشاهدات.
على كل حال، حركة السود لا تختلف كثيرا عن حركة "مي تو". ولعلّ العنصر النسائي والنسوي الجامع بين الحركتين يسهّل التشابه. بل أكثر من ذلك أن مارغريت ميتشل، الروائية العنصرية، هي أيضا نسوية، بالدور الذي تعطيه لبطلة روايتها، سكارليت أوهارا: الجميلة، البناءة، ربة العمل، السند لعائلة موسعة، التي تثير غيظ أهلها ومحيطها بريادتها أعمالا لا يقوم بها إلا الرجال. تداخل نسوي أسود، عزّزته محنة الوباء الأخيرة؛ إذ جمعهما ضحايا العنف المنزلي وطرائد الموت الجسدي والمهني، الموازية للوباء واللاحقة عليه. ما يسمح بطرح معضلتهما المشتركة، خصوصا أمام جموحهما لإعادة كتابة التاريخ، وإبداع الأشكال والمضامين الفنية، بقواعد تحترم كلا اليوتوبيتَين، بعد القوة التي اكتسبتها حركتهما.
ثمّة من جفلَ مما يمكن أن تفضي إليه طريق التطهير هذه، تقلقهم محاولات إعادة كتابة التاريخ؛ مع أن عديدين منهم يلتقون مع الحركتين، ويؤيدون مطالبهما. لكنهم أيضا يتمسّكون بإرثهم الثقافي، يخشون على الذاكرة الأخرى من الانمحاء، أو أحياناً بإعادة كتابةٍ، تجيز بـ"انحيازها الإيجابي" أن تصعد أبطالها الجدد القدماء، وأحيانا على حساب وقائع ثابتة، فيطرح نقاش الثابت من هذه الوقائع؛ وخذْ على جدال. والأمر نفسه ينطبق على الأعمال الفنية التي اعتبرت خالدة، ويحاولون اليوم مرمغة أنفها في "مزابل التاريخ"، فيقترح أولئك النافرون المؤيدون "نهجاً تربوياً"، هو ربما التعبير الفعلي عن ميزان القوى القائم الآن بين الحركتين وخصومهما. وقوام هذا "النهج"، أو بعضه، ربما نرى لاحقاً غيره .. أن كل الأعمال الفنية الموصوفة بـ"الذكورية والعنصرية" تُرفق بملاحق، أو ملاحظات، تبيّئها، تضعها في إطارها التاريخي، انطلاقاً من موقفٍ منحازٍ لحقوق السود أو النساء. وتكون في هذه الأثناء قد خرجت الثقافة الجماهيرية السوداء أو النسوية، بأعمالها هي، بذاكرتها هي .. وربما بعد أن يختلّ الميزان نهائيا لصالح الاثنين، لن نعود نسمع لا عن دانتي، ولا فولتير، أو نيتشه، ولا عمر بن أبي ربيعة، ولا أبي نواس، أو حتى أفلاطون؛ وقد بنى جمهوريته الفاضلة الحرّة بتجاهل تام لموقع العبيد فيها، على الرغم من وجودهم الواقعي. ولكن، ربما يسمح أيضا بنبْش تراث الحلاج، ونشره على نطاق واسع، ليس بصفته عاشقاً إلهياً متصوفاً وحسب، إنما ثائراً ضد نظام الزنْج في البصرة خلال القرن الثامن ميلادي، في العهد العباسي.
لا يتوقف التشابه بين الاثنتَين، النسوية والسوداء، عند هذا الحدّ. بل ربما من هذا التشابه تولد تلك الإشكالية التي تطرحها الحركتان. النسوية الأخيرة، المتمثلة بالـ"مي تو"، والتي تلاحق كل بادرة جنسية، أو حركة، أو إشارة، وتحاكمها، وتفضحها، تزيلها من الشاشة أو أي مجال عام آخر .. هذه النسوية، عندما تأخذ مجدها في ملاحقتها المذنبين الجنسيين من بين الرجال، تسير، بجموحها هذا، نحو نْسف قواعد الغرام القديمة، القائمة على الخضوع لإرادة الرجل. وقد تذهب بعيداً، من دون ضجيجٍ كثيرٍ هذه المرّة، في هدم هذه القواعد التي سادت منذ آلاف السنوات. وإذا تجاوزت هذه الحركة حدود الثقافة السينمائية، وجلست صاحباتها على عرش أصحاب القرار، فسنكون بصدد إعدام كل التراث الفني والأدبي والمعيوش الذي قامت هياكله بناء على سيطرة الرجال بالقرار الجنسي؛ وذلك، على مدى متوسط، وتدريجي، قد لا يحظى بالضجّة الإعلامية اللازمة، فيكون تقويضاً لكل ما سبق أن عرفناه عن العشق والهوى والرغبة والغواية.
والمغالاة الراهنة بملاحقة كل من تجرّأ وضع يده على فخذ من يستحليها، أفضت أيضاً إلى ردّة فعل عكسية لنساء ضد حركة "مي تو" بأسرها؛ برسالةٍ وقعتها فنانات وكاتبات غربيات، في مقدمتهن الممثلة الفرنسية كاترين دونوف، أشعلت نقاشاً لن ينتهي قريباً. في الرسالة تنديدٌ بـ"الموجة التطهيرية" لحركة "مي تو"، والتي نالت من أعمال فنية، مثل لوحة "العارية" لإغون شيال، وفيلم رومان بولنسكي "إني أتهم" أو فيلم أنتونيوني "بلو آب" إلخ. ومن الرسالة: "إن أصحاب القرار في مشاريعنا الفنية والأدبية باتوا يطلبون منا أن نخفِّف من رجولية أبطالنا الرجال، أن نتكلم عن الحب والجنس باعتدال، أو أن نتصرّف بما يفضي إلى اعتبار أن الصدمات التي تتلقاها النساء (من الشؤون البديهية)".
الإنتفاضة السوداء أخيرا لم تفعل شيئاً مختلفاً: بدأت باقتلاع تماثيل الشخصيات التي تاجرت بالعبودية القادمة من أفريقيا، أو قوْننتها أو شرعتها. وكان لها صدى قوياً في فرنسا وبلجيكا وبريطانيا. بل في جزيرة المارتينيك أيضا دمّر المتظاهرون تمثال مواطنهم المارتينيكي فيكتور شولدر، أبو استقلال الجزيرة الكاريبية: إنه صحيح انتزع الاستقلال، ولكن ثمة وجوه محلية استقلالية أخرى أكثر جدارةً منه، لم تنلْ قسطها من التأريخ..
وأكثر ما لفتتْ به النظر انتفاضة السود هذه هو السجال الذي أحدثه سحب فيلم "ذهب مع الريح" (1939) الكلاسيكي، الموضوع على قائمة الأفلام العشرة الأهم في تاريخ السينما على منصّة
على كل حال، حركة السود لا تختلف كثيرا عن حركة "مي تو". ولعلّ العنصر النسائي والنسوي الجامع بين الحركتين يسهّل التشابه. بل أكثر من ذلك أن مارغريت ميتشل، الروائية العنصرية، هي أيضا نسوية، بالدور الذي تعطيه لبطلة روايتها، سكارليت أوهارا: الجميلة، البناءة، ربة العمل، السند لعائلة موسعة، التي تثير غيظ أهلها ومحيطها بريادتها أعمالا لا يقوم بها إلا الرجال. تداخل نسوي أسود، عزّزته محنة الوباء الأخيرة؛ إذ جمعهما ضحايا العنف المنزلي وطرائد الموت الجسدي والمهني، الموازية للوباء واللاحقة عليه. ما يسمح بطرح معضلتهما المشتركة، خصوصا أمام جموحهما لإعادة كتابة التاريخ، وإبداع الأشكال والمضامين الفنية، بقواعد تحترم كلا اليوتوبيتَين، بعد القوة التي اكتسبتها حركتهما.
ثمّة من جفلَ مما يمكن أن تفضي إليه طريق التطهير هذه، تقلقهم محاولات إعادة كتابة التاريخ؛ مع أن عديدين منهم يلتقون مع الحركتين، ويؤيدون مطالبهما. لكنهم أيضا يتمسّكون بإرثهم الثقافي، يخشون على الذاكرة الأخرى من الانمحاء، أو أحياناً بإعادة كتابةٍ، تجيز بـ"انحيازها الإيجابي" أن تصعد أبطالها الجدد القدماء، وأحيانا على حساب وقائع ثابتة، فيطرح نقاش الثابت من هذه الوقائع؛ وخذْ على جدال. والأمر نفسه ينطبق على الأعمال الفنية التي اعتبرت خالدة، ويحاولون اليوم مرمغة أنفها في "مزابل التاريخ"، فيقترح أولئك النافرون المؤيدون "نهجاً تربوياً"، هو ربما التعبير الفعلي عن ميزان القوى القائم الآن بين الحركتين وخصومهما. وقوام هذا "النهج"، أو بعضه، ربما نرى لاحقاً غيره .. أن كل الأعمال الفنية الموصوفة بـ"الذكورية والعنصرية" تُرفق بملاحق، أو ملاحظات، تبيّئها، تضعها في إطارها التاريخي، انطلاقاً من موقفٍ منحازٍ لحقوق السود أو النساء. وتكون في هذه الأثناء قد خرجت الثقافة الجماهيرية السوداء أو النسوية، بأعمالها هي، بذاكرتها هي .. وربما بعد أن يختلّ الميزان نهائيا لصالح الاثنين، لن نعود نسمع لا عن دانتي، ولا فولتير، أو نيتشه، ولا عمر بن أبي ربيعة، ولا أبي نواس، أو حتى أفلاطون؛ وقد بنى جمهوريته الفاضلة الحرّة بتجاهل تام لموقع العبيد فيها، على الرغم من وجودهم الواقعي. ولكن، ربما يسمح أيضا بنبْش تراث الحلاج، ونشره على نطاق واسع، ليس بصفته عاشقاً إلهياً متصوفاً وحسب، إنما ثائراً ضد نظام الزنْج في البصرة خلال القرن الثامن ميلادي، في العهد العباسي.