النخب الخليجيّة المفقودة

26 ديسمبر 2014

لا يزال مصطلح الشعب مفهوماً ملتبساً لدينا (أ.ف.ب)

+ الخط -

تشير كتابات لخلدون النقيب وغانم النجار إلى أنه، في النصف الأول من القرن العشرين، وكذلك في عقدي الستينات والسبعينات، كانت النخب الخليجية نشطة، تقود عملية التحديث السياسي والفكري المتصل بمثيله في العالم العربي. لكن، بعد ذلك، خفتت أدوارها وتعطلت، بسبب اندماج هذه النخب بالدولة النفطية، والقطيعة مع المجتمع المدني التي برزت هذه القوى من خلاله في السابق.

مع مجيء النفط، وتعزيزه الهيمنة المركزية، تبدّلت طبيعة العلاقات مع النخب الاقتصادية، وكذلك اضطر رموز الحركة الثقافية للاندماج مع الرؤية الثقافية الرسمية للدولة، أو التعرض للتهميش المتعّمد والمنع وربما الحبس. وهذا يتفق مع دراسات كتبت حول النفط والتحولات الديمقراطية، فبعد موجة التأميم (السبعينيات) التي استطاعت نقل الثروة، في تحوّل تاريخي، من الدول المستوردة إلى البلدان المنتجة، وعلى مدى عقدين، اجتاحت موجة التحول الديمقراطي دول العالم، لكن البلدان الغنية بالنفط كانت الاستثناء الذي لم يستجب لهذا التحول.

إسكات الصوت المعارض، وصد الضغوط المطالبة بالإصلاح، كان أحد تجليات تعاظم القوة في يد السلطة التي لم تعد محتاجة لأحد، بما في ذلك مفاوضة نخب معبّرة عن الشعب، ومحققة أدواراً وظيفية يحتاجها المجتمع. تم ذلك بعد تضخيم السلطة جهازها الحكومي، وتوظيف عائدات النفط لتوفير بنية تحتية ووظائف ومطالب اجتماعية وخدمية ارتبط بها الشعب مباشرة.

تلعب النخب دور الوسيط بين الشعب والسلطة، لكن هذا الدور ينجح، حين يتم بناء هذه النخب من بين الناس، وبشكل طبيعي، وليس إعادة إنتاجها من الأعلى، كما الحال في الدولة الخليجية الحديثة، وعبر معايير جديدة، كالإغراق بالمزايا ووضع الولاء محل الكفاءة. فبذلك يكون الدور الوظيفي للنخب تابعاً للأعلى، من حيث تجميله، وتنفيذ ما يريد وتمرير خياراته على الناس.

وغياب الوسيط، أو تغييبه، يعني فقدان ما نستطيع تسميته "الالتحام". فلا يوجد ضغط يستطيع كيان توليده على آخر، ما لم يكن الالتحام بين الجسدين موجوداً، والناس بغياب النخب، تفقد القدرة على الالتحام بالسلطة، ومن ثم الضغط عليها، بحسب الطرق المؤسسية المفترضة.

إن رسم التوجه الاجتماعي وتحفيزه يتمثل في النخب، ولو قال قائل إن النخب ماتت لكن الشعوب حية، فهذا كلام قد يصح، لكن الشعوب لا تستطيع التحرك والتوجه بذاتها، مهما تحدثنا عن تعلّمها وتطورها، فهي ما زالت بحاجة لرأس يقود هذه الكيانات، ويرتب الحركة ويقدمها عبر معنى وهدف منظور. يوضح جان بورديارد، في كتابه "في ظل الأغلبيات الصامتة"، أن عامة الناس، أو هذه الأغلبيات، تتميّز بالسلبية في ردود فعلها، حيث إنها لا تتجاوب بندية، بل فقط تمارس الامتصاص والاستيعاب لأي شيء يُركَّز عليها بكثافة، من التاريخ أو الإعلام أو الأجهزة الثقافية والسياسية المختلفة.

قوة النخب لن تتحقق ما لم تتحقق قوة أساسها، وهو الفرد العادي، فهو "الوحدة" التي يتكوّن منها المجتمع المدني الحديث. لا يزال مصطلح الشعب، أو العامة، مفهوماً ملتبساً وضعيفاً لدينا، بل ويتم الازراء به، كما نرى في خطاب التراث السلفي الذي يرادف مصطلح العامة بالسوقة، وربما الرعاع أحياناً.

لم يتم تحرر الغرب نفسه وتقدمه إلا بعد تحرير هذا المفهوم. كان لكلمة الشعب معنى مذموم في السياق الغربي، وقد بدأ الجدل الفلسفي حولها حين أطلق الفيلسوف الإنجليزي، جون لوك، تكهناته حول طبيعة العامة، فأعلن أن طبيعتهم مسالمة، بينما قرر الإنجليزي الآخر، توماس هوبز، أنهم "همج"، من طبيعتهم حب الحرب والشر جِبِلّة في نفوسهم. وهوبز هو أول مَن فلسف مصطلح "العامة"، في كتابه "في المواطن"، حين انتصر للطبقة البرجوازية المرفّهة على حسابهم. وفي فترة مقاربة له في القرن السابع عشر، تكوّن انطباع مغاير لدى الفيلسوف الهولندي، سبينوزا، عنهم، حين عبّر عنهم بمصطلح "الحشد" في رسالته في "اللاهوت والسياسة"، واعتبرهم كياناً له قوته المعتبرة.

وقد تغيّر المعنى المذموم لكلمة الشعب في الثقافة الغربية، بعد أن أخذت هذه الكلمة معنى جديداً منذ العام 1750، حين صدرت الموسوعة الفلسفية الشهيرة، التي تكاتفت في كتابتها جهود فلاسفة من مشارب مختلفة، ديدرو وفولتير وروسو وغيرهم.. لقد اعتبر محررو الموسوعة أن الشعب هو "الجزء الأكبر عدداً، والأكثر ضرورة من الأمّة". وكذلك معاني مثل "أمّة" و"قومي" أخذت تتطور منذ تلك الفترة. إن كل فترة تحول وإصلاح حقيقي، تتطلب إعادة كتابة القواميس، و"مَفْهَمَة" المفاهيم من جديد.

إن تعطّل المفاهيم المعرفية المطلوبة، وتغييب مؤسسات مدنية وأهلية قادرة على صنع هذه النخب من مكانها الطبيعي، أدى إلى الاعتياد والتطبيع الدائم مع نخب مزيفة، تلك التي انكمش دورها الثقافي والرمزي حين شغلته بدور وظيفة متميّزة في الدولة. وقد تتم المشاركة بصناعة النخب من الأعلى. لكن، في المقابل، تغييب استخدام صوت الناس في هذه الصناعة هو المشكلة التي تعطل كل شيء، فكما يقول غرامتشي، على كل فئة مجتمعية أن تصنع مثقفيها ونخبتها بنفسها.

يجادل هذا المقال أن صانع القرار الخليجي محتاج إلى تفعيل الدور الطبيعي للنخب، مثلما يحتاجه الشعب، فكثير من الاضطرابات و"الربكة" المجتمعية، اليوم، تتجه إلى لوم السياسي وحده، لأن مركزية كل الأمور في يديه، وهو لا يملك أدوات تعديل أو تفاعل، لأنه محروم من وجود مؤسسات ونخب طبيعية تقابله، وتكون معبّرة عن الشعب، لا محسوبة على السلطة فقط، ومن ثم، فاقدة معنى وجودها.

85E9E8E1-EE94-4087-BB96-D28B3C71079C
عبد العزيز الحيص

كاتب سعودي