استهلاك بلا مقاومة

08 أكتوبر 2014

تصميم لـِ"دروغان سانشيز بلالافيا"

+ الخط -
تنتشر في عالمنا العربي ثقافة استهلاكٍ، لا يوجد لها مقاومة. منطقة الخليج ذات القوة الشرائية الكبيرة تعتبر جنة الحرية للاستهلاك والرأسمال في العالم. لكن، من دون مجتمع مدني ومؤسسات حقوقية تطارد الشركات وتجبرها على الدفع من أموالها، وتحجّم ربحيتها الخرافية، وتعيد تشكيل خدمتها وطريقتها، لما فيه صالح الناس.

بلا مؤسسات مقابلة، لا توجد قدرة على الضغط والتأثير. تزداد الأمور صعوبة، حين يتقاطع المتنفذون في الدولة مع الشركات التجارية، وهذا ما يحدث، عادةً، في بلدان النمط الريعيّ، الذي يحرص على توزيع الامتيازات، لا الحقوق. يجتمع أصحاب المصالح من النخب العليا من كل طرف، ويقدمون التسهيلات المتبادلة. تتشابك فروعهم في الأعلى كأغصان الشجر، ويبقى التراب للجذور والجذع.  

في بلداننا، كان من المفترض أن تحرص الدول على حماية "حق التجمع"، للناس، لأغراض مدنية، لكنه أمر مجرّم اليوم. بينما يوجد تجمعات من نوع نفعي، يسمح بتشكلها، وتزاح من أمامها كل العقبات، بما فيها القانونية، في أحيان كثيرة.

ليس مصادفة، إذن، أنه لا يوجد مؤسسة مدنية، سمح لها بالتشكل والنشاط في الأقطار الخليجية، ولديها انتخاباتها، إلا الغرف التجارية!. يكتب باقر النجار في كتاب "الديمقراطية العصية في الخليج العربي" أن العقود الثلاثة الأخيرة في الخليج شهدت "تداخلاً غير عادي بين التجاري والسياسي، وذلك أن الرغبة في الإثراء والنفوذ تدفع نحو تداخل غير عادي بين ما هو سياسي وما هو تجاري، فالسياسي لم يعد سياسياً محضاً، كما أن التجاري لم يعد تجارياً محضاً... وهي حالة ساعدت على نشر الفساد والسعي وراء المصالح الذاتية الخاصة". 

كذلك، هناك ضعف ثقافي، يتجلى في سلوك الناس، وانهزام آرائهم أمام نفوذ الشركات، وسيطرة الحياة الاستهلاكية عليهم وعلى أبنائهم. بعضهم، مثلاً، يرى أن الفرد ذهب إلى الشركات باختياره، ولذا، لا حق لنا في انتقاد ذلك، فهو موجود في عالم حرّ!. وهذا عدم فهم لهذه العملية المعقدة، فلو ذهبوا إلى مستوى أعمق، لوجدوا أن التنظيم والبناء كلّه يصب في صالح المؤسسات الرأسمالية ومساراتها، أي أنه بناءٌ غير صالح من أساسه، ومن ذلك خيارات الحكومة وتسهيلاتها، وتغييب البديل المعتدل في التوفير الاقتصادي. لذا، اختيار الفرد ورضوخه، في النهاية، ليس إلا آخر خطوات عملية معقدة من الهيمنة. في حال قامت شركة أو كيان ما بصنع دعاية، فلغيرهم حق في صنع دعاية مضادة. هذه ممارسة مدنية طبيعية. حين تُغري البنوك الرأسمالية الناس بأخذ قروض ميسرة، يفترض وجود مسار ثقافي يشوّه هذا الأمر، ويذكّر الناس بأنه فخ وتوريط مدى الحياة. لكن، هذا البعد الممانع والنقدي غائب، لأن ثقافتنا التي استسلمت لهيمنة الاستهلاك عطلت وظيفية ذلك البعد، وفي غياب الوظيفة (الحاجة)، يضمر العضو، كما في البيولوجيا.
 
تكمن خطورة هيمنة المؤسسات الرأسمالية في أنها هيمنة خفيّة ذات قوة وسلطة لا ترى. وكما قال ألدوس هسكلي، صاحب رواية "عالم جديد شجاع"، تأتي الخطورة الكبرى في الزمن الحديث من "العدو المبتسم". والثروة، كما يقول المنظرون، تحيط بنيتها ومؤسساتها بالكتمان، على عكس الفقر الذي يملأ المجتمعات صراخاً. مؤسسات وحكومات كثيرة عاشت انقلاباً بدورها، كان الأساس أنها تخدم الإنسان، لأنها وضعت من أجله. لكن، ما يحدث يوضح أنها تتصرف كالإنسان، إن تحررت من الرقابة والنقد، فستسلك سلوكاً نفعياً بالتأكيد.

تشير المؤلفات الصادرة في الغرب إلى خطورة الثقافة الاستهلاكية وتسليع الإنسان والحياة. أحدها يذكر أن ما تغير بالنسبة للاستهلاك أن الإنسان أصبح يشتري بقلبه لا بعقله. في السابق، كان الإنسان يشتري عبر عقله ما يحتاج إليه فقط، أمّا اليوم، فيشتري ما لا يحتاج، ليرضي فجوة وغواية في قلبه الذي نجحت الشركات في إعادة تركيب أولوياته. يذكرون، أيضاً، أن منطق اليوم أصبح "أنا استهلك، إذاً أنا موجود". لم تعد قيمة الإنسان موجودة، إذاً، إلا في ما يمتلك من أشياء. 

الحقوق الاقتصادية، أحياناً، أشد صعوبة في التحقق. في أميركا، يتحسر المفكرون أن إنجاز الستينيات بالحصول على الحقوق المدنية لم يترافق معه كسب للحقوق الاقتصادية وعدالة توزيع الثروة في البلد. ولا يزال الجدل والصراع مستمراً في أميركا، فالشركات، وبشكل "تقليدي"، تستثمر الواجهة الديمقراطية والقوة الشرعية في البلد، للحصول على تفسيرات قضائية وتشريعية معينة. بل وتجيّر، بجانب هيمنتها المستمرة على جهات متعددة، حرية الرأي وحق الشعب في الضغط على الحكومة، لصالح خياراتها، وخيارات الأقوياء من قادتها. يضاف إلى ذلك تهميشها المتعمد والعنيف لأي صوت نقابي وثقافي مستقل في البلاد.
 
مع ذلك، ولأنها بلد حر، تتاح المساحة للمقاومة التي تقابل هذه الهيمنة، وإن كانت فشلت في جولات كثيرة. هنالك حقوقيون ونشطاء وجماعات أصبحوا معتبرين جداً بسبب هذه المقاومة. مثل رالف نادر الذي أسس جمعية حماية المستهلك، وأصبح رابع أهم شخصية في أميركا في الستينيات والسبعينيات. نجح نادر في تغريم الشركات المليارات، نتيجة تجاوزاتها وضبطها في مسائل الغش في التلاعب والمواصفات، وكذلك الدفع لإقرار القوانين والتشريعات المتعلقة بسلامة المركبات على الطرق، ومراقبة المنتجات الغذائية والتلوث وسلامة المياه وغيرها، ما ساهم في تأكيد سلامة الملايين من البشر. 

في بيئة حرة، قد تخلق هذه المقاومة لثقافة الاستهلاك والنخب التي تقف وراءها، شيئاً من رضاً لدى الإنسان الذي يخوضها ويهتم بها. ولكن، في بيئة غير حرة، قد يشعر بالأسى، لأنها معركة لا يُسمح بخوضها. معركة يفترض أن يراقبها وهو مستسلم.

85E9E8E1-EE94-4087-BB96-D28B3C71079C
عبد العزيز الحيص

كاتب سعودي