الربيع العربي بعيون ماركيوز
يُحكى أن الناس تستفيد من الفشل أكثر من النجاح، ففي النجاح يحتفلون فقط، أما حال الفشل فهم يعيدون التفكير. ومرحلة الربيع العربي تجبرك على إعادة التفكير، فرغم التفاؤل أنها مرحلة رفعت مستوى الوعي والجدل، إلا أنه جدل يستحق المراقبة والتحفظ، فهو يبدو في خانة اللامنتهي واللامنتج. الدلائل تشير أنه، وبمرور الوقت، لم ينجح هذا الجدل سوى في تعميق خلاف التيارات العربية، ولم يفلح في كسر أنماط الهيمنة وتجديد الأوضاع القائمة في العوالم العربية المختلفة.
إن المدارس التي تتعاضد فيها العقول المنتجة، والمعنية بتحقيق التحرر البشري، شبه غائبة عن مشهدنا الثقافي العربي، ذلك أن الأطر والأنساق القوية المهيمنة خنقت وجودهم وأضعفته. ولذا، نحن بحاجة إلى كتلة ثقافية صلبة، تخترق جدران الانسداد العربي. نحتاج المثقف النقدي الذي يهب الزخم للأفكار، ويعمل على بثها، ونحتاج المفكر الذي يصنع له تلك الأفكار، ومن ورائهما، نحتاج الفيلسوف الذي يحفر مجرى نهر، يكون مورداً لهذه الأفكار.
نعوّل على الكتلة الثقافية في التغيير، لأن النخب الأخرى في المجتمع لا تجيد التعامل مع أساليب الهيمنة الحديثة، وتقع فريسة لها في العادة. يتحدث فلاسفة معاصرون أن عبارة "أنا حر" حين يطلقها الفرد المعاصر، هي مقولة كاذبة، فهو لو ترك وحده سيقع ضحية الأنساق التي خلقها الأقوياء في زمانه، فعبر هذا التحكم والهيمنة، شكّل الأقوياء الثقافة التي حصرت خيارات الفرد، وجعلته يظن أن الحرية تقع ضمن اختياراتها.
إن الفرد ليس حرّاً بذلك سوى بمعنى سطحي، قالت بذلك أطروحات متنوعة لهيغل وماركس وفرويد، وصولاً إلى سلافوي جيجيك الذي يصف لعبة الخيارات في مجتمعات الديمقراطية الليبرالية، بأنها "اللعبة الوحيدة الممكنة في المدينة"، لأن الديمقراطية الليبرالية القائمة تجعلك أمام بدائل من صنعها (مثلا هي أم الأصولية)، وبذا تبقي نفسها مستمرة، لأن كل ما عداها مرعب وشمولي!.
صاحبنا في هذا المقال يرى أن المجتمع الحديث يدمر سمتين أساسيتين لدى البشر: قدرة الإنسان على اتخاذ القرار، وقدرته على تغيير بيئته. وهو الفيلسوف الألماني، هيربرت ماركيوز (1898- 1979)، الذي بعث فلسفة هيغل من جديد في أوروبا عبر أطروحته الأكاديمية، والذي يعتبر أول من فسّر ماركس، وقدمه لوحة مرجعية ملوّنة لشباب اليسار الجديد في الغرب. يضاف إلى ذلك أنه أحد أهم أعمدة المدرسة النقدية (مدرسة فرانكفورت) التي كانت معنية بتحليل المظاهر السلطوية، وتفكيك أساليب الهيمنة الحديثة على الإنسان، بجانب أسّها الأول: النقد الثقافي.
تميز ماركيوز الذي تنقل بين فكره بين شرق الغرب وغربه، أنه عادى الرأسمالية ورفاهيتها المزيفة، حيث رأى تكبيلها الخفي للذات البشرية، عبر أساليب حديثة من الهيمنة، لا ترى، وليست قاسية كأساليب الهيمنة التقليدية. حلل ماركيوز التطورات التاريخية، حيث البروليتاريا والطبقة البرجوازية ما عادتا عوامل تحول اجتماعي، وإنما قوى محافظة ضد التغيير، حين أصبح العمال موظفين، استلبوا في المجتمع المتقدم، عبر وجود "نظام كامل من السيطرة والتنسيق... يخلق أشكالاً من الحياة والسلطة، تبدو وكأنها منسجمة مع قوى المعارضة، وتبطل، بالتالي، جدوى كل احتجاج..".
هذه الأفكار، تحدث عنها ماركيوز في أهم كتبه "الإنسان ذو البعد الواحد"، حيث أن العالم الذي يفقد قدرته الحيوية على النقد، عالم يكون الفرد فيه أحادي البعد والتفكير، على الرغم من مزاعم الحرية. أليست هذه إحدى الكواشف التي أظهرها لنا الربيع العربي.
تجسدت نزعة تشاؤمية في هذا الكتاب من ماركيوز، لأنه قدّم عميقاً للنظام والمجتمع الرأسمالي المتقدم الذي أوهم كثيرين بمظاهره المصنوعة، وأنا، هنا، أجادل أن مجتمعاتنا العربية مسمّمة بالرأسمالية. وقد كان ماركيوز قد اهتم، وأمثاله من رواد مدرسة فرانكفورت، بعلم النفس، لأنهم احتاجوا كشف مسائل تغييب الوعي في الهيمنة الحديثة، لكن ماركيوز عاد إلى التفاؤل الثوري في كتبه اللاحقة: "مقال عن التحرر" و"الثورة والثورة المضادة".
حين كتب ماركيوز عن الثورة المضادة، كان يرى أن ما يعيشه المجتمع الغربي لم يكن مرحلة ثورة ضد الرأسمالية، ولا مرحلة إرهاصات ما قبل الثورة. لقد بطلت النبوءة الماركسية وما لحقها من آمال منظري الصف الثاني. ومن هنا، أخذ الكاتب يبحث عن مواطن جديدة، تكمن فيها محفزات التغيير. يقرأ ماركيوز كيف أن الثورة المضادة متحكمة تتملك الغالبية، وهي من القوة بحيث تمارس الوقائية تجاه بوادر أي تغيرات محتملة.
ولنا نقل هذه الملاحظة، ففي العالم العربي، نحن لسنا في مرحلة ثورة مضادة، فالكيانات الثورية لا تُزاحم "سياسيّاً" اليوم، وغُيبت سريعاً، بل نعيش مرحلة "الثورة الوقائية"، حيث أن الأنظمة القائمة تستفيد من ذكائها وخبرتها الطويلة، لتتحسس وتلغي بوادر ودروب التغيير الكامنة.
كتب ماركيوز عن الثورة بتنوع في جميع مراحله الفكرية. من المهم أن ندرك أن الثورة والتغيير لا ترتبط بالضرورة بتلك الصورة الدرامية (النمطية) التي نعرفها عن ثورات تسقط العروش، بقدر ما تكمن في حيوية القدرة على التغيير والارتقاء، بحسب ما تتطلبه الأوضاع الجديدة.
إن المجتمع الذي تهدف لتحريره من السلطات المستبدة لا يستحق بالتأكيد أن تضعه تحت استبداد أيديولوجيتك. من هنا، تفشل الحركات في كسب الدعم الشعبي، ومن هنا، فشل الإسلام السياسي، أكثر من مرة، لأنه لا يفهم الشعوب، ويتكبر أن يقدم لها المراجعات الجريئة التي تستحقها هذه الشعوب في سبيل الحرية. ولا أعني، هنا، حريتها السياسية فقط. بل، في المقابل، ركز على مطالبه منها. إن الشعوب طبيعية تهفو إلى الحياة، وتعود دوماً إلى وسطها الاعتيادي، ولا يهمها، في النهاية، من يرفع شعارات انتصار أو شهادة، أو شعارات مظلومية. هناك أحداث ظلم، وهناك ردة فعل شرعية عليها، وعلى الاضطهاد، لكنها لا تمثل رؤية ومشعلاً للناس الذين يهدفون إلى حياة طبيعية محررة.
جوهر ما أريد قوله، هنا، أن ماركيوز استطاع، عبر أفكاره وكتاباته، الخروج من سياق ثوري إلى آخر، تبعاً للسياقات الاجتماعية الجديدة، وعبر ما أطلق عليها "الحساسية الجديدة"، التي تبحث عن رؤية جديدة، تحرر الفرد من أسره التاريخي، ومن فكره المستسلم للواقع. وفي سبيل ذلك، لجأ إلى إبراز دور الكيانات القادرة على تحفيز التغيير، وإن لم تكن قادرة على التغيير بنفسها. فتوجه بذلك نحو فئات المهمشين، والطلبة، بجانب فئة مثقفي الانتلجنسيا، لاستدعاء مكونات شعبية، لتحريك الشعبي نفسه. فهذه فئات جديدة من الجمهور، خارجة عن إطار الهيمنة التي تسيطر من خلال "نظام الحاجات" والمصالح.
ربما لم يعد ماركيوز مقروءاً، كما في زمانه الذي صاحبه بقية حماس راديكالي، حيث ذاع صيته بتزامن مع احتجاجات الستينات المدنية، واحتجاجات الحرب على فيتنام، وحراك الطلاب العالمي، بجانب حركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة. لكن تجربته الفكرية فيها ما يمكن استلهامه، خصوصاً ونحن نعرف أن خلاصنا يكمن في الفكر. الفكر الذي يدرك أنه متورط اليوم في زمن "الرقابات الهائلة".