31 أكتوبر 2017
المقاومة الفلسطينية وغياب التفكير الاستراتيجي
عام مضى على الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، شكل الكيان الصهيوني خلاله خمس لجان للتحقيق في مسار الحرب، ورصد وتقييم نتائجها واستخلاص العبر منها، ناهيك عن أن نتائج هذه الحرب ظلت مادة نقاش ساخنة في كل المؤتمرات التي نظمتها مراكز التفكير الصهيونية الرائدة، إلى جانب أدبيات قاربت هذه الحرب وتداعياتها، من زوايا ومحاور مختلفة، شملت كتباً وأوراقاً بحثية ومئات المقالات، في حين عرضت قنوات التلفزة الإسرائيلية الرئيسة وثائقيات وتحقيقات، تناولت أحداثاً مفصلية في الحرب.
وفي المقابل، لم تشهد الساحة الفلسطينية جدلاً موضوعياً لتقييم الحرب وبيئتها ومسارها ونتائجها. اتسم الجدل الفلسطيني بشأن الحرب بحضور التسييس وغياب الموضوعية والمسؤولية؛ ولم يتم التصدي للأسئلة المفتاحية التي يمكن على أساسها تقديم تقييم جدي تفرضه المسؤولية الوطنية. انحسر تقييم الحرب في اتجاهين. الأول تشبثت به القيادات المتنفذة في حركة فتح وأبواق سلطة رام الله ومكينتها الدعائية التي حرصت على توظيف الخسائر البشرية الكبيرة، والدمار الهائل الذي لحق بالعمق المدني الفلسطيني والبنى التحتية، في شن حملة لشيطنة المقاومة، والتدليل على "عبثيتها وانعدام مسؤوليتها"، وإضفاء شرعية على النهج الكارثي والتفريطي الذي يسلكه محمود عباس. أعمت الخصومة السياسية هؤلاء عن رؤية ما أقر به القادة العسكريون الصهاينة وكبار الاستراتيجيين في تل أبيب الذين عدوا نتائج الحرب مسوغاً لتبرير التعبير عن "يأسهم" من إمكانية ردع المقاومة في غزة، فلم يجد الجنرال يوآف هارإيفن، قائد شعبة العمليات في الجيش الصهيوني، الذي خطط مسار الحرب وأشرف عليها، بداً من الاعتراف بأن أداء المقاومة الفلسطينية خلال الحرب جعل من العبث الرهان على إمكانية ردعها (يديعوت أحرنوت، 20-6).
ولا يمكن الغارقون في وحل التعاون الأمني مع الاحتلال، أن ينظروا بعين الرضا إلى حقيقة أن المقاومة نجحت في اختراق حدود الكيان الصهيوني، البرية والجوية والبحرية، على نحو غير مسبوق، على الرغم من البون الشاسع في الإمكانات العسكرية والتكنولوجية. بإمكان عباس أن يقدم روايته للحرب، ويذرف دموع التماسيح على غزة، لكن أهلها ما زالوا يذكرون أنه الذي تواطأ علناً مع إسرائيل بعد حرب 2008، وحرص على عدم بحث تقرير غولدستون الذي اتهم الكيان الصهيوني بارتكاب جرائم حرب ضد "مواطنيه".
الاتجاه الثاني يعبر عنه خطاب قادة المقاومة في مقاربتهم للحرب ونتائجها، وهو يعكس سطحية، ويحاول تبرير تبعات غياب رؤية إستراتيجية، كان يفترض أن تنظم مسار الحرب، وتحسن من مكانة الطرف الفلسطيني في الحرب وما بعدها. فمن الواضح أن الأداء البطولي والصمود الأسطوري للمقاومة لم يفضيا إلى تحقيق نتائج في حجم التضحيات الهائلة التي قدمتها الحاضنة الجماهيرية. من هنا، اتبعت بعض قيادات المقاومة آلية جدلية لتبرير ما أسفرت عنه الحرب من الخسائر، بالقول إن هذه الحرب فرضت على غزة. وبالتالي، لم يكن في الوسع تجنب ما أحدثته آلة القتل الصهيونية من دمار، في ظل ميل موازين القوى لصالح إسرائيل. للأسف، يدلل تتبع مسار الحرب على أنه لا يمكن التسليم بهذه الرواية، فإن كانت المقاومة تدرك أن ظروف المعركة ليست في صالحها، فإنها كانت مطالبة بالانحناء للعاصفة ومحاولة احتواء الموقف، لتقليص الأضرار، فقد كان في مقدور المقاومة صياغة ردودها العسكرية على عمليات الاغتيال التي نفذتها إسرائيل في بداية الحرب، بشكل لا يمنح الصهاينة المبرر للإقدام على ما أقدموا عليه. وكانت المقاومة مطالبة بطرح أهداف فضفاضة، تسمح لها بالنزول عن الشجرة، حيث إن أحداً لم يتصور أن بإمكانها تحقيق انتصار مطلق على إسرائيل، يجبرها على الإذعان لمطالبها.
أخفقت المقاومة في قراءة البيئة الإستراتيجية للحرب، ومركباتها الأساسية، فلم تأخذ بالاعتبار ميل موازين القوى لصالح الكيان الصهيوني، الأمر الذي كان يعني أنها ستكون عاجزة عن حماية عمقها المدني، وحاضنتها الجماهيرية التي ظلت طوال الحرب تحت آلة القتل والتدمير الصهيونية. ولا شك في أن أكبر خطأ وقعت فيه المقاومة تجاهلها طابع البيئة الإقليمية السائدة، والتي مثلت رديفاً مهماً للكيان الصهيوني، فقد مثلت الحرب فرصة للقوى الإقليمية العربية التي تناصب الحركات الإسلامية العداء لإضعاف حركة حماس، فتواطأ بعضها صراحة مع إسرائيل، في حين مثل صمت آخرين إيماءة مباركة لإسرائيل.
وبعد عام على الحرب، لم يتصدَّ أحد لاستخلاص العبر، وهذا بالغ الخطورة، لأنه يعني احتكام المقاومة لمنطلقات العمل نفسها التي احتكمت إليها خلال الحرب، وهذا تسليم بغياب الرؤية الإستراتيجية التي تحدد الاتجاه الصحيح للبوصلة. وفي تقديري أن استخلاص أمين للعبر يجب أن يفضي إلى استنتاجين أساسيين:
أولاً: على المقاومة عدم المبادرة لخوض مواجهة ضد الاحتلال، في حال كانت مركبات بيئة المواجهة ليست في صالحها، ولا سيما البيئة الإقليمية. وفي حال فرضت هذه المواجهة على المقاومة، فإنها مطالبة بصياغة تكتيكاتها العسكرية، بشكل لا يمنح إسرائيل المسوغات لاستهداف الحاضنة الجماهيرية والعمق المدني على نطاق واسع.
ثانياً: لا يصلح قطاع غزة لأن يكون ساحة رئيسة للمواجهة مع الاحتلال. فمنذ العام 2005، باتت غزة تتحمل تبعات معظم عمليات المقاومة، على الرغم من أن الظروف الجغرافية والديمغرافية وحقائق الجغرافيا السياسية لا تساعد القطاع على لعب هذا الدور. فعلى المقاومة مواصلة بناء قدراتها العسكرية والقتالية في القطاع، لكنها، في الوقت نفسه، مطالبة ببذل جهود أكبر لتجاوز تأثير الحرب المشتركة التي تشنها عليها سلطة رام الله وإسرائيل، بحيث تتمكن من تنفيذ عمليات تسهم في استنزاف الاحتلال وتشتيت جهده، انطلاقاً من الضفة الغربية. في الوقت نفسه، يجب أن تكون المقاومة إبداعية، بحيث تعمل على استغلال التحولات الإقليمية، وتوظيفها في إيجاد ساحات جديدة لمشاغلة إسرائيل، عندما يكون الأمر ملحاً.
وفي المقابل، لم تشهد الساحة الفلسطينية جدلاً موضوعياً لتقييم الحرب وبيئتها ومسارها ونتائجها. اتسم الجدل الفلسطيني بشأن الحرب بحضور التسييس وغياب الموضوعية والمسؤولية؛ ولم يتم التصدي للأسئلة المفتاحية التي يمكن على أساسها تقديم تقييم جدي تفرضه المسؤولية الوطنية. انحسر تقييم الحرب في اتجاهين. الأول تشبثت به القيادات المتنفذة في حركة فتح وأبواق سلطة رام الله ومكينتها الدعائية التي حرصت على توظيف الخسائر البشرية الكبيرة، والدمار الهائل الذي لحق بالعمق المدني الفلسطيني والبنى التحتية، في شن حملة لشيطنة المقاومة، والتدليل على "عبثيتها وانعدام مسؤوليتها"، وإضفاء شرعية على النهج الكارثي والتفريطي الذي يسلكه محمود عباس. أعمت الخصومة السياسية هؤلاء عن رؤية ما أقر به القادة العسكريون الصهاينة وكبار الاستراتيجيين في تل أبيب الذين عدوا نتائج الحرب مسوغاً لتبرير التعبير عن "يأسهم" من إمكانية ردع المقاومة في غزة، فلم يجد الجنرال يوآف هارإيفن، قائد شعبة العمليات في الجيش الصهيوني، الذي خطط مسار الحرب وأشرف عليها، بداً من الاعتراف بأن أداء المقاومة الفلسطينية خلال الحرب جعل من العبث الرهان على إمكانية ردعها (يديعوت أحرنوت، 20-6).
ولا يمكن الغارقون في وحل التعاون الأمني مع الاحتلال، أن ينظروا بعين الرضا إلى حقيقة أن المقاومة نجحت في اختراق حدود الكيان الصهيوني، البرية والجوية والبحرية، على نحو غير مسبوق، على الرغم من البون الشاسع في الإمكانات العسكرية والتكنولوجية. بإمكان عباس أن يقدم روايته للحرب، ويذرف دموع التماسيح على غزة، لكن أهلها ما زالوا يذكرون أنه الذي تواطأ علناً مع إسرائيل بعد حرب 2008، وحرص على عدم بحث تقرير غولدستون الذي اتهم الكيان الصهيوني بارتكاب جرائم حرب ضد "مواطنيه".
الاتجاه الثاني يعبر عنه خطاب قادة المقاومة في مقاربتهم للحرب ونتائجها، وهو يعكس سطحية، ويحاول تبرير تبعات غياب رؤية إستراتيجية، كان يفترض أن تنظم مسار الحرب، وتحسن من مكانة الطرف الفلسطيني في الحرب وما بعدها. فمن الواضح أن الأداء البطولي والصمود الأسطوري للمقاومة لم يفضيا إلى تحقيق نتائج في حجم التضحيات الهائلة التي قدمتها الحاضنة الجماهيرية. من هنا، اتبعت بعض قيادات المقاومة آلية جدلية لتبرير ما أسفرت عنه الحرب من الخسائر، بالقول إن هذه الحرب فرضت على غزة. وبالتالي، لم يكن في الوسع تجنب ما أحدثته آلة القتل الصهيونية من دمار، في ظل ميل موازين القوى لصالح إسرائيل. للأسف، يدلل تتبع مسار الحرب على أنه لا يمكن التسليم بهذه الرواية، فإن كانت المقاومة تدرك أن ظروف المعركة ليست في صالحها، فإنها كانت مطالبة بالانحناء للعاصفة ومحاولة احتواء الموقف، لتقليص الأضرار، فقد كان في مقدور المقاومة صياغة ردودها العسكرية على عمليات الاغتيال التي نفذتها إسرائيل في بداية الحرب، بشكل لا يمنح الصهاينة المبرر للإقدام على ما أقدموا عليه. وكانت المقاومة مطالبة بطرح أهداف فضفاضة، تسمح لها بالنزول عن الشجرة، حيث إن أحداً لم يتصور أن بإمكانها تحقيق انتصار مطلق على إسرائيل، يجبرها على الإذعان لمطالبها.
أخفقت المقاومة في قراءة البيئة الإستراتيجية للحرب، ومركباتها الأساسية، فلم تأخذ بالاعتبار ميل موازين القوى لصالح الكيان الصهيوني، الأمر الذي كان يعني أنها ستكون عاجزة عن حماية عمقها المدني، وحاضنتها الجماهيرية التي ظلت طوال الحرب تحت آلة القتل والتدمير الصهيونية. ولا شك في أن أكبر خطأ وقعت فيه المقاومة تجاهلها طابع البيئة الإقليمية السائدة، والتي مثلت رديفاً مهماً للكيان الصهيوني، فقد مثلت الحرب فرصة للقوى الإقليمية العربية التي تناصب الحركات الإسلامية العداء لإضعاف حركة حماس، فتواطأ بعضها صراحة مع إسرائيل، في حين مثل صمت آخرين إيماءة مباركة لإسرائيل.
وبعد عام على الحرب، لم يتصدَّ أحد لاستخلاص العبر، وهذا بالغ الخطورة، لأنه يعني احتكام المقاومة لمنطلقات العمل نفسها التي احتكمت إليها خلال الحرب، وهذا تسليم بغياب الرؤية الإستراتيجية التي تحدد الاتجاه الصحيح للبوصلة. وفي تقديري أن استخلاص أمين للعبر يجب أن يفضي إلى استنتاجين أساسيين:
أولاً: على المقاومة عدم المبادرة لخوض مواجهة ضد الاحتلال، في حال كانت مركبات بيئة المواجهة ليست في صالحها، ولا سيما البيئة الإقليمية. وفي حال فرضت هذه المواجهة على المقاومة، فإنها مطالبة بصياغة تكتيكاتها العسكرية، بشكل لا يمنح إسرائيل المسوغات لاستهداف الحاضنة الجماهيرية والعمق المدني على نطاق واسع.
ثانياً: لا يصلح قطاع غزة لأن يكون ساحة رئيسة للمواجهة مع الاحتلال. فمنذ العام 2005، باتت غزة تتحمل تبعات معظم عمليات المقاومة، على الرغم من أن الظروف الجغرافية والديمغرافية وحقائق الجغرافيا السياسية لا تساعد القطاع على لعب هذا الدور. فعلى المقاومة مواصلة بناء قدراتها العسكرية والقتالية في القطاع، لكنها، في الوقت نفسه، مطالبة ببذل جهود أكبر لتجاوز تأثير الحرب المشتركة التي تشنها عليها سلطة رام الله وإسرائيل، بحيث تتمكن من تنفيذ عمليات تسهم في استنزاف الاحتلال وتشتيت جهده، انطلاقاً من الضفة الغربية. في الوقت نفسه، يجب أن تكون المقاومة إبداعية، بحيث تعمل على استغلال التحولات الإقليمية، وتوظيفها في إيجاد ساحات جديدة لمشاغلة إسرائيل، عندما يكون الأمر ملحاً.