12 نوفمبر 2024
المصالحة الاقتصادية والفساد في تونس
كان الجانب الاجتماعي حاضرا بقوة في الثورة التونسية، منذ شرارتها الأولى، ولم يكن غريبا أن يكون الشعار المركزي لتظاهرات الجماهير الغاضبة مختصرا في "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق"، ما يعبر عن مطالب أساسية، أهمها التشغيل ومحاسبة الفاسدين، وتحقيق حد أدنى من العدالة الاجتماعية المطلوبة. وجاءت الخطوات التي اتخذتها حكومات ما بعد الثورة وقرارات المجلس التأسيسي بمصادرة أموال المخلوع بن علي وعائلته بالدرجة الأولى، ثم التحفظ على أموال رجال أعمال تحوطهم شبهات الفساد والتربح والحصول على قروض من دون ضمانات (في مجملها أموال غير مستعادة) تضررت منها البنوك، وكشفت عن حالات فساد واسعة في أروقة الإدارة التونسية، غير أنه، وبعد انتخابات 2014 ووصول حزب نداء تونس إلى أعلى هرم السلطة (رئاسة وحكومة)، تم طرح قانون للمصالحة الاقتصادية، اعتبرته الأطراف المدافعة عنه، وهي أساسا الوافدون الجدد للسلطة، حلا ممكنا يشجع على الاستثمار، وينهض بالاقتصاد الوطني، ويعزز الثقة بمؤسسات الدولة. وإذا كان القانون الحالي المطروح أمام مجلس النواب من اقتراح رئاسة الجمهورية، فإن موضوع المصالحة الاقتصادية كان من المفترض أن يعتبر من مشمولات هيئة الحقيقة والكرامة، بوصفها مؤسسة دستورية، تعنى بكل الملفات المتعلقة بالتجاوزات الأمنية، أو الاقتصادية التي شهدتها تونس ما قبل الثورة.
فإذا كان حزب نداء تونس (والأحزاب الرديفة له) قد اعتبر القانون "مشروعاً وطنياً"، من أجل إنقاذ اقتصاد البلاد، داعيا أحزاب المعارضة، على لسان أمينه العام، إلى "التحلي بالشجاعة السياسية الكافية من إنجاح المصالحة الوطنية"، فإن قوى حزبية وسياسية وناشطين حقوقيين اعتبروا قانون المصالحة الاقتصادية محاولة لفرض عفو عن الفاسدين، من دون محاسبتهم، خصوصاً أن القانون تمت صياغته من دون مشاركة واسعة من الأحزاب، أو استشارة لهيئة الحقيقة والكرامة، ذات العلاقة بالموضوع، والتي أكدت في بيان لها (صدر في 20/07/2015) أن هذا القانون "يضمن الإفلات من العقاب لمرتكبي أفعال تتعلق بالفساد المالي وبالاعتداء على المال العام". وذكرت "أنّ مشروع القانون يفرغ منظومة العدالة الانتقالية من محتواها، ويؤدي إلى التخلي عن أهم آلياتها في كشف الحقيقة والمساءلة والتحكيم والمصالحة وإصلاح المؤسسات".
وعلى أهمية الجانب القانوني، فإن قضية المحاسبة في تونس بعد الثورة ظلت تراوح مكانها، من حيث أن الخطوات التي تم اتخاذها لمحاسبة المفسدين وإعادة الاعتبار للمال العام غير مؤثرة، ولم يشعر الرأي العام الوطني أنها تحقق المطالب الشعبية بضرورة وضع حد لحالات الإفلات من العقاب، وإيقاف حالات الفساد المستشري في قطاعات اقتصادية كثيرة، وفي أروقة الإدارة. وربما من الممكن القول إن رجال الأعمال الذين مولوا وضخوا أموالا طائلة في الحملات الانتخابية، من أجل وصول طرف بعينه إلى السلطة، إنما هم الآن بصدد تسوية حساباتهم، واستعادة مكاسبهم، نظير ما أسدوه من خدمات للقوى النافذة في السلطة اليوم. وتكشف تقارير منظمة الشفافية الدولية عن تراجع في ترتيب تونس في مجال الشفافية، وبعد أن حققت تقدما بعد الثورة مباشرة، غير أنها يبدو كأنها تسير القهقرى نحو إعادة آلية الفساد الاقتصادي.
وإن كان من غير ممكن إنكار أهمية إيجاد قانون للمصالحة في المجال الاقتصادي، وإعطاء الفرصة لرجال الأعمال للنشاط في ظل حالة الانكماش الاقتصادي التي أعلن عنها البنك المركزي، أخيراً، وتراجع مؤشرات النمو في بداية هذه السنة نحو الصفر، فإن من الواجب أيضا الانتباه الى أن المصالحة لا تعني تكريس الفساد، وإفلات مرتكبيه من المساءلة، وبشكل قانوني. وهذا التذبذب بين أهمية التسريع في فتح المجال الاقتصادي وضمان أكبر قدر ممكن من الشفافية والعدالة هو موطن الصراع بين القوى الحزبية السلطوية وتلك الموجودة في المعارضة، ولأن حزب نداء تونس يصر على تمرير القانون، وبالاتفاق مع حلفائه في السلطة، فإن الأمر يخلق سابقة ما بعد الثورة في الانفراد بالقرار في قضايا وطنية، تعني كل الأطراف والقوى، وسيكون لها أثر على المستوى الوطني. وبلغة أخرى، كان ينبغي على "نداء تونس" أن يتحلى بأكبر قدر ممكن من الانفتاح على القوى السياسية والاجتماعية، خصوصاً التي أعلنت أنه تم تجاهلها في صياغة نص القانون، علماً أن هذه القوى تضم أحزاباً عديدة (برلمانية وغير برلمانية) واتحاد العمال، بالإضافة إلى هيئة الحقيقة والكرامة، ما سيشكل محورا للصراع السياسي حالياً، وفي الفترات المقبلة، حتى وإن تم إقرار القانون (وهو ما سيحصل فعليا) الأمر الذي سيشكل خرقا لمنطق التوافقات والتشاور الوطني الذي كان يتغنى به بعضهم، باعتباره علامة على تميز الديمقراطية التونسية الناشئة.
وعلى أهمية الجانب القانوني، فإن قضية المحاسبة في تونس بعد الثورة ظلت تراوح مكانها، من حيث أن الخطوات التي تم اتخاذها لمحاسبة المفسدين وإعادة الاعتبار للمال العام غير مؤثرة، ولم يشعر الرأي العام الوطني أنها تحقق المطالب الشعبية بضرورة وضع حد لحالات الإفلات من العقاب، وإيقاف حالات الفساد المستشري في قطاعات اقتصادية كثيرة، وفي أروقة الإدارة. وربما من الممكن القول إن رجال الأعمال الذين مولوا وضخوا أموالا طائلة في الحملات الانتخابية، من أجل وصول طرف بعينه إلى السلطة، إنما هم الآن بصدد تسوية حساباتهم، واستعادة مكاسبهم، نظير ما أسدوه من خدمات للقوى النافذة في السلطة اليوم. وتكشف تقارير منظمة الشفافية الدولية عن تراجع في ترتيب تونس في مجال الشفافية، وبعد أن حققت تقدما بعد الثورة مباشرة، غير أنها يبدو كأنها تسير القهقرى نحو إعادة آلية الفساد الاقتصادي.
وإن كان من غير ممكن إنكار أهمية إيجاد قانون للمصالحة في المجال الاقتصادي، وإعطاء الفرصة لرجال الأعمال للنشاط في ظل حالة الانكماش الاقتصادي التي أعلن عنها البنك المركزي، أخيراً، وتراجع مؤشرات النمو في بداية هذه السنة نحو الصفر، فإن من الواجب أيضا الانتباه الى أن المصالحة لا تعني تكريس الفساد، وإفلات مرتكبيه من المساءلة، وبشكل قانوني. وهذا التذبذب بين أهمية التسريع في فتح المجال الاقتصادي وضمان أكبر قدر ممكن من الشفافية والعدالة هو موطن الصراع بين القوى الحزبية السلطوية وتلك الموجودة في المعارضة، ولأن حزب نداء تونس يصر على تمرير القانون، وبالاتفاق مع حلفائه في السلطة، فإن الأمر يخلق سابقة ما بعد الثورة في الانفراد بالقرار في قضايا وطنية، تعني كل الأطراف والقوى، وسيكون لها أثر على المستوى الوطني. وبلغة أخرى، كان ينبغي على "نداء تونس" أن يتحلى بأكبر قدر ممكن من الانفتاح على القوى السياسية والاجتماعية، خصوصاً التي أعلنت أنه تم تجاهلها في صياغة نص القانون، علماً أن هذه القوى تضم أحزاباً عديدة (برلمانية وغير برلمانية) واتحاد العمال، بالإضافة إلى هيئة الحقيقة والكرامة، ما سيشكل محورا للصراع السياسي حالياً، وفي الفترات المقبلة، حتى وإن تم إقرار القانون (وهو ما سيحصل فعليا) الأمر الذي سيشكل خرقا لمنطق التوافقات والتشاور الوطني الذي كان يتغنى به بعضهم، باعتباره علامة على تميز الديمقراطية التونسية الناشئة.