المشروع القومي للمكايدة

14 اغسطس 2016

ذهب السيسي إلى اليونان بهدف مكايدة تركيا (9ديسمبر/2015/Getty)

+ الخط -
تقدّم عماد محروس، النائب في برلمان عبد الفتاح السيسي، ببيان عاجل للمطالبة بمنح اللجوء السياسي لفتح الله غولن الذي تتهمه الحكومة التركية بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة منتصف يوليو/ تموز الماضي. وأتحفنا سيادة النائب بأسباب ذلك الطلب، قائلا "أحببت من خلال البيان العاجل أن نضايق تركيا في أي شيء أو في أي موضوع"، وفقا لما نقلته وكالات الأنباء.
قبل ذلك الطلب بأيام، دعا المستشار الإعلامي لنظام الانقلاب سابقاً، أحمد المسلماني، إلى استضافة غولن في مصر، في حالة موافقة الولايات المتحدة على تسليمه إلى تركيا، أو قامت بترحيله، معتبراً أنه تصرف مماثل لاستضافة تركيا "من يضايقون النظام المصري والأنظمة العربية والإسلامية"، على حد تعبيره. ليتوج برلمان السيسي تلك الدعوات بطلبٍ تقدم به 337 نائبا للاعتراف بـ"مذابح الأرمن" التي تتهم أرمينيا الدولة العثمانية بارتكابها في أثناء الحرب العالمية الأولى. وهي دعوة سبق أن طالب بها سياسيون وإعلاميون مصريون منذ الانقلاب، بعد الموقف الحاد الذي اتخذته الحكومة التركية ضده.
فشل السيسي في جميع المشروعات القومية الوهمية التي أعلن عنها على مدار ثلاث سنوات، لكن المشروع المستمر الوحيد فيها نجاحه الساحق في سياسة المكايدة، "فتقام المشروعات لإغاظة المعارضين، والكيد للمخالفين"، وفقا لتعبير الكاتب وائل قنديل الذي سك مصطلح "جمهورية كايداهم العربية" على جمهورية السيسي التي تتحفنا فعلاً، كل يوم، بالجديد، مثلما رأيناه من تعامل النظام مع أحداث تركيا. وجاء امتناع وزير التربية والتعليم عن الاتصال بالطالبة أميرة عراقي، وتهنئتها بحصولها على المركز الأولى على مستوى الجمهورية في مرحلة الثانوية العامة بسبب انتماء والدها السياسي، ليعبّر عن امتداد تلك السياسة إلى الداخل. ولمَ لا، وقد طالب أحد الأذرع، قبل ذلك، بالاحتفال في ذكرى فض اعتصام ميدان رابعة العدوية، أسوأ مجزرة في تاريخ مصر الحديث، فقد وصلت سياسة المكايدة إلى مستوياتٍ إجراميةٍ منذ مدة طويلة.
لكن الحقيقة أن النظام فقط وأنصاره هم من يتصوّرون أنهم بذلك يغيظون معارضيهم أو أعداءهم، ويكيدون لهم، بينما في الحقيقة يتميّز النظام غيظاً، هو وأنصاره، بعد أن ساءت الأحوال في مصر إلى درجةٍ بدأ يفقد فيها السيطرة، بعد أن كانوا يخشون، في البداية، من انتقاد النظام خوفاً مما يسمونها "شماتة الإخوان".
كان الدكتور محمد أبو الغار، رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي السابق، الذي حكم
البلاد بعد الانقلاب في حكومة حازم الببلاوي، وارتكب المجازر الكبرى بالتعاون مع السيسي، أول من عبّر عن تلك الرؤية، عندما كشف أن المجلس العسكري قام بتزوير ديباجة الدستور الذي أعدته لجنة الخمسين التي تم تعيينها عقب الانقلاب، لكنه قال إنه التزم الصمت حينها، ولم يتحدّث عن الموضوع خوفا من "شماتة الإخوان".
أما الأديب وعضو البرلمان، يوسف القعيد، فقد انتقد مشروع تفريعة قناة السويس، معرباً عن عدم شعوره بالارتياح منه، لكنه استدرك قائلا إنه لا يحب انتقاد المشروع، لأنه بذلك "يقدم مادة خام" لمن سماهم "خصوم الوطن".
لكن سيداتٍ أعلَنَّ عن فكرة بعنوان "اللي يوجع الإخوان، زغرودة حلوة ترن في الميدان"، وهي دعوة وجهنها إلى سيدات مصر للتجمع في ميدان التحرير، لإطلاق ما سموها "أكبر زغرودة مصرية"، احتفالا بافتتاح مشروع التفريعة، وقال أحد الأشخاص، ممن أطلق على نفسه لقب "منسق الاحتفالية"، إنه يسعى إلى دخول موسوعة "غينيس" العالمية بهذه "الزغرودة". بالطبع، لم يعثر أحد على أثر لتلك السيدات المفترض وجودهن في الميدان في ذلك اليوم، لكن الفكرة نفسها تدل على مستوى عقول أذرع النظام الذين يستمدون منه أفكاره الملهمة في المكايدة.
أما العلاقات الخارجية، فقد اعتمدت، بشكل شبه كامل، على سياسة المكايدة ومحاولة إثارة الغيظ، لكنها تحولت إلى مساخر، جعلت منهم أضحوكة أمام العالم أجمع، بعد أن تصوّروا أن الأفعال الطفولية المراهقة التي يقومون بها ستؤدي إلى نتائج ملموسة، وستجعل الآخرين يعيرون لهم أي انتباه.
توجه السيسي إلى قبرص واليونان، لإقامة تحالف معهما ضد سياسة تركيا، بغرض "إغاظة تركيا"، حتى لو أدى ذلك "الغيظ" إلى تنازل مصر عن حقها في حقول الغاز في البحر المتوسط لصالح قبرص وإسرائيل، بل وادعت صحف مصرية، قبل عامين، أن ذلك التحالف المصري اليوناني القبرصي أدى إلى انزعاج تركيا، وأنها ربما تتحرّك عسكرياً، ردا على ذلك التحالف الشنيع، إلا أن أحداً لم يتعامل مع تلك الحركات البهلوانية بجدية، وإذا بوزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، يصدمهم بالحقيقة قبل شهرين، ويلقيها في وجوههم، قائلا إن "مصر تحت حكم السيسي لم تعد دولةً قوية، بل أصبحت دولة هشة ومعرضة للانهيار".
وفي ما يتعلق بالعلاقات المصرية الروسية، اعتبرت الأذرع الإعلامية أن زيارات بوتين القاهرة، وتوجه السيسي إلى زيارة روسيا مرات، إنما ستؤدي إلى ذعر الولايات المتحدة وخوفها. وكتب أحد تلك الأذرع مقالاً مضحكاً، زعم فيه أن "السيسي وبوتين يغيظان أوباما".
وبعد وفاة مواطنين أميركيين من السود على يد الشرطة في بلادهم، أعلن نواب في برلمان
السيسي أنهم يدرسون إرسال وفد من لجنة حقوق الإنسان في المجلس "للتحقيق في جرائم الشرطة الأميركية ضد المواطنين السود"، مطالبين بـ"تطهير الشرطة الأميركية من العنصرية". وقال نائب آخر إنه سيطالب وزير الخارجية بمخاطبة السفير الأميركي في القاهرة، وإبلاغه بسرعة إرسال نتيجة التحقيقات في أحداث دالاس، وما يستجد من أحداث.
هذا هو مستوى عقول (وتفكير) نواب برلمان دولة بحجم مصر، وهذا هو تصورهم عن السياسة الخارجية وكيفية إدارتها. كان أحد نواب هذا البرلمان قد قرّر اتباع سياسة المكايدة عند بداية تشكيل المجلس، عندما توجه إلى "الإخوان" قائلا "سنبهركم"، وقد وصل مستوى الإبهار بالفعل إلى مستويات قياسية! وحدث ولا حرج عن معارك وزير الخارجية المصري، سامح شكري، مع "ميكروفون الجزيرة" وصولاته وجولاته مع هذا الميكروفون الذي أذاقه الويلات! بالإضافة إلى تجنبه مصافحة الأتراك عند ذهابه لتسليم تركيا رئاسة منظمة التعاون الإسلامي، بينما ذهب بعدها ذليلا إلى بنيامين نتنياهو ليستجدي دعم إسرائيل.
لكن تردّي الأوضاع وتدهور الأحوال ووصول شكاوى المواطنين إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، جعل بعض أذرع النظام يصاب بالذعر، وينحّي جانباً مسألة "حتى لا يشمت الإخوان"، متحدثا بصراحة، ومحذرا النظام من قرب نهايته، مثلما فعل المحامي رجائي عطية، أحد أخلص المخلصين للسيسي، والذي نشر رسالةً وجهتها مواطنة مصرية إلى السيسي، قالت فيه إن "البلد تضيع" مشتكية من شرائها الدولار بسعر 12 جنيها و80 قرشا (كان ذلك قبل أن يتعدى 13 جنيها بعد ذلك بساعات)، وناعية مشروع تفريعة قناة السويس، وما سمتها "هلوسة المؤتمر الاقتصادي"، متسائلة "إلى متى سنسكت خوفاً من شماتة الإخوان والثوار"! فيما حذر إعلاميون من ثورة جياع قادمة، وأعرب سياسيون وإعلاميون عن يأسهم من الوضع القائم. وهو حصاد مستحق لنظامٍ لم يفعل شيئا سوى المناكفة والمكايدة، فلم يجن شيئا سوى الانهيار بسرعة الضوء.
D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.