بُشرَيات رسمية وإعلامية

15 يونيو 2024
+ الخط -

يبدو أن المسؤولين في مصر يعتقدون أنّ طريقة الإعلان عن المصائب ستُؤدّي إلى أن يستقبلها المصريون بترحاب وينسون تأثيرها السلبي في حياتهم. إذ حاول بعض أولئك، على مدار سنوات، التفنّن في هذا المجال، لكنّ المُحصّلة لم تختلف على الإطلاق.

أحدث ملفّ شهد هذه المحاولات الكهرباء، فقد أعلن مسؤولون وإعلاميون عن إجراءات قاسية بطريقةٍ تشعر المصريين وكأنّها بُشرَيات وإنجازات (!) من ذلك على سبيل المثال، ما "بشّر" به وزير الكهرباء محمد شاكر، بأنّه متفاءل خيراً بشأن استمرار "خطّة تخفيف الأحمال" حتّى نهاية العام الحالي (2024)، وهو ما اعتبره موقع إخباري "طمأنة" من الوزير للمواطنين. ويبدو أنّ الوزير، والموقع الإخباري، تصوّرا أنّ الجمهور لن يفهم مصطلح "تخفيف الأحمال" على حقيقته، وأنّهم سيعتقدون أنّه يتعلّق بتخفيف الأحمال عن كاهل المصريين، وليس أنّ المقصود به استمرار قطع الكهرباء عنهم حتّى نهاية العام، وهو أمر كارثي، خاصّة مع الصيف الحالي، إذ وصلت درجات الحرارة في بعض المناطق، مثل محافظة أسوان، إلى 50 درجة مئوية، ما أدّى إلى وفاة 40 شخصاً جرّاء ارتفاع درجات الحرارة. وكأنّ هذا لا يكفي، فيأتي "تخفيف الأحمال" ليثقل كاهل المواطن ويعرّضه لخطر أكبر.

أما عن فترة "تخفيف الأحمال" نفسها، فقد شهدت المحاولة نفسها من تحويل الحديث عنها إنجازاً، فقد زفّ مذيع شهير إلى المتابعين، عبر حسابه في منصة إكس، خبراً يفيد بأنّ قطع الكهرباء مُستمرٌّ مدة ساعتين "فقط" (!) بهدف "التخفيف عن المواطنين بسبب الحرّ الشديد والامتحانات"، حسب قوله، وذلك، بعد تداول أنباء عن زيادة تصل مدّتها إلى ثلاث ساعات. والمفارقة أنّ هذا المذيع نفسه كان يؤُكّد، وهو يضحك بطريقة تستخفّ بمعاناة الناس، أنّ المصريين سيتحمّلون زيادة مدّة قطع الكهرباء إلى ثلاث ساعات، قبل أن يتراجع ليبشّرهم أنّ الزيادة لن تحدُث.

أكّد أحد "رجال الدين" للمصريين أنّ الفقراء سيدخلون الجنّة قبل الأغنياء بخمسمائة عام!

الملفّ الأكثر إلحاحاً في هذا الجانب المياه، إذ تتعرّض مصر لتحدٍّ وجوديّ، يتمثل في سد النهضة الإثيوبي، الذي يُهدّد بإنقاص حصّة البلاد من المياه. ومع ذلك، وجدنا المسؤولين يتعاملون بلامبالاة، وصلت إلى حدّ الصفاقة، والإبلاغ عن الفشل بطريقة الإنجازات، مثل ما قاله أحد وزراء الزراعة السابقين قبل سنوات، عندما قال إن نصيب الفرد من المياه انخفض إلى أقلّ من 600 متر مكعّب، ما يعني "أنّنا وصلنا بسلامة الله إلى منطقة الفقر المائي" على حدّ قوله. وكأنّ الأمر كان خطّة ناجحة تابعها الوزير حتّى تحققت (!) ولم ينسَ الوزير في ختام تصريحه أن يبشّر المصريين بخبر سعيد آخر، وهو أنّ نصيب الفرد من المياه سيستمر في الانخفاض حتّى يصل إلى أقلّ من 400 متر مكعّب بحلول عام 2050.

اللجوء إلى الديباجات الدينية، مثل ما فعل وزير الزراعة، سلوك مُتأصّل في تبرير الفشل والكوارث. وهو جانب آخر من "البُشرَيات" الرسمية، ولكن، بشكل غير مباشر، فهو يوصل رسالة إلى المواطن، بأنّ عليه الصبر على قضاء الله وقدره، وأنّ عاقبته ستكون حميدة، وسيأتي الفرج بعده من الله، مكافأة على هذا الصبر.

لجأ وزير المالية، المفترض أنّ عمله يتصّل بالأرقام والتفاصيل الدقيقة، إلى هذا الأسلوب مرّات عدّة، فقد أرجع سبب "المرحلة الصعبة" التي تمرّ فيها مصر منذ سنوات إلى "أقدار الله"، وليس بسبب "أخطاء سياسية كما يصوّر البعض"، على حدّ قوله، مبشّراً المصريين بأنّهم "يجب أن يتحمّلوا حتّى تمرّ المرحلة على خير"، من دون تقديم أيّ تواريخ أو أرقام محدّدة.

أما عن الإعلاميين ورجال الدين أنفسهم، فحدّث ولا حرج عن تبشيرهم المصريين بأنّ غلاء الأسعار قدر من الله ليختبر عباده المؤمنين، وبأنّه لا حيلة للعبد المؤمن أمام ارتفاع الأسعار، وبأنّ الصابرين سيدخلون الجنة، جزاءً وفاقاً على المصائب التي يعانون منها، فقد أكّد أحدهم للمصريين أنّ الفقراء سيدخلون الجنّة قبل الأغنياء بخمسمائة عام، ما يعني أنّ الفقراء يجب أن يحبّوا فقرهم، وأن يظلّوا غارقين فيه، إذا أرادوا دخول الجنّة بسرعة. وبالطبع، لم يذكر "رجل الدين" هذا، إن صحّت تسميته كذلك، شيئاً عن حالته المادّية وتصنيفه، وهل سيدخل الجنّة عاجلاً أم آجلاً، أم ربّما لديه حسابات أخرى (!)

D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.