سقوط "الأبد" عربياً

07 يناير 2025
+ الخط -

احتفل السوريون بإسقاط نظام الرئيس المخلوع بشّار الأسد، بالقول: "سقط الأبد"، في إشارة إلى ما كان يقوله أنصار النظام، من قبيل: "شبّيحة للأبد، لعيونك يا أسد". وحتى قبل عهد بشّار، أي في حياة والده حافظ الأسد، كان هناك شعار "قائدنا إلى الأبد، الأمين حافظ الأسد"، الذي كان يُرفَع حتى بعد وفاته، بعدما أُطلق عليه لقب "القائد الخالد". ولذلك كان طبيعياً أن يهتف السوريون بعد إسقاط نظام بشّار "حرية للأبد، غصب عنك يا أسد".
قد يبدو للوهلة الأولى أن "الأبد" فكرة أسدية بامتياز، لكن الواقع يفيد بأنها مشتركة بين جميع الدول التي ترزح تحت الديكتاتورية، فالعقل العربي، بغض النظر عن انتماءاته وخلفياته، يعاني من فكرة "الأبد"، إذ يجزم أنصار كلّ فكرة أنها ستكون المنتصرة في نهاية المطاف، وإلى الأبد، وهي فكرة تشبه ما كان يقال عن "نهاية التاريخ" بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في تسعينيّات القرن العشرين، والحديث عن انتصار نهائي حققه الغرب ونموذجه الديمقراطي الليبرالي الرأسمالي. وبما أن الدول العربية تتشابه كثيراً، فإن فكرة "سقوط الأبد" ستمتدّ كذلك إلى بلدان عربية عدّة.
غير بعيد من سورية، يبدو أن وجود الكيان الصهيوني في محيط عربي أصابه بأمراض العقل العربي نفسها، فقد وجدنا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يخرج بعد سقوط نظام الأسد، متوعّداً بأن هضبة الجولان (المحتلة منذ 1967) ستبقى تحت السيطرة الإسرائيلية "إلى الأبد"، وهو وهم لا يقلّ عن الأوهام العربية.

ستستغرق فكرة "الأبد" وقتاً طويلاً حتى تتراجع في عقول السوريين، فلا يمكن الاستهانة بأكثر من 60 عاماً من حكم "البعث"

وفي مصر، تباهى أحد "المفكرين" الليبراليين البارزين بأن النظام خلّصهم من جماعة الإخوان المسلمين "إلى الأبد". في حين أن أبسط مبادئ السياسة تشير إلى أنها لا تعرف الفراغ، فطالما لم يصنع النظام السياسي الجديد بديلاً مقنعاً للجمهور، بسلطته ومعارضته، سيبقى شبح عودة "الإخوان"، أو غيرهم ممّن تعرّضوا للإقصاء خلال العقد الماضي، قائماً وبقوة. ويؤكّد الأداء السياسي للنظام خلال السنوات الماضية فشله في إنتاج أي ظهير سياسي شعبي، ما جعله يضطر مرّات عدة إلى إنشاء تكتّلات سياسية مشوّهة، سرعان ما تتفكّك بعد أن يثبت عجزها عن تحقيق أيّ شيء. وجديد تلك التكتّلات الكيان المسمّى "حزب الجبهة الوطنية" (للمفارقة، أنشأ حافظ الأسد كياناً مشابهاً حمل اسم الجبهة الوطنية التقدمية)، وقال مؤسّسو الحزب إنه لا يهدف للوصول إلى السلطة، وإنه ليس حزباً مؤيّداً أو معارضاً (!)، ولذلك لن يكون مصيره مختلفاً عن سابقيه، في ظلّ هذه التخاريف التي يطلقها القائمون عليه.
وغير بعيد من هذا التصور الأبله لفكرة التخلّص من المعارضة إلى الأبد، انطلق مذيع شهير مهاجماً المعارضين المصريين الهاربين من القمع، الذين اضطروا للإقامة في الخارج، ليجزم بأنهم سيُدفنون خارج مصر "مثل الكلاب". لا نعرف من أين جاء المذيع بهذه الثقة المطلقة في المستقبل، الذي لا يعلمه إلا الله، لكن اللافت أنه اعتبر الدفن خارج البلاد "عقوبةً" في حدّ ذاتها، وكأنه ينقص من قدر المُتوفَّى، بينما هو أمرٌ لا يقدّم ولا يؤخّر. وفي العموم، لا أحد يدري من سيُدفن في بلاده، ومن سيهرب ليدفن خارجها.
بالعودة إلى الشأن السوري، شهدت ساحة الأمويين في دمشق مظاهرةً ضمّت عشرات من المنادين بعلمانية الدولة. لكنّ المضحك أن أحد الداعين لها لم يتخلّص بعد من عقلية حزب البعث الأبدية، فكتب إن سورية "ستبقى مدنيةً وعلمانيةً إلى أبد الآبدين". ليس مستغرباً أن يلجأ هذا الشخص إلى هذا النوع من التفكير، فقد كان شبّيحاً أصيلاً لنظام الأسد وداعماً مجازره في حقّ السوريين، كما أن تأكيده أن سورية "ستبقى مدنية وعلمانية" يفضح طريقة تفكيره، فمعنى هذا أن سورية في عهد الأسد كانت تتمتع بالحقوق المدنية التي يطالب بها الآن، رغم أن البلاد كانت تعيش تحت حكم متسلّط متخلّف أشبه بالعصور الوسطى.
يمكن القول إن فكرة "الأبد" ستستغرق وقتاً طويلاً حتى تتراجع في عقول السوريين، فلا يمكن الاستهانة بأكثر من ستّين عاماً من حكم حزب البعث. وأول ما يجب الحذر منه في ما يتعلّق بهذه الفكرة، اعتقاد بعضهم أن سقوط النظام يمثّل انتصاراً نهائياً، مثل مشاهد النهايات في الأفلام العربية، وأن الثورة لن تتعرّض لانتكاسات أو تراجع، أو حتى تآمر عليها لإجهاضها، مثلما جرى في بلدان عربية عدة، وهو ما سيحدث حتماً خلال الفترة المقبلة. لذلك، إذا كان هناك بدّ من التفكير من هذا المنظور، فيجب توطين النفس على أن المعركة مستمرّة "إلى الأبد".

D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.