ما فعله بايدن
يحاول الرئيس الأميركي جو بايدن جاهدا علاج تبعات المناظرة الكارثية التي جرت بينه وبين منافسه في الانتخابات الرئاسية المقبلة دونالد ترامب. أرجع هذا الأداء الضعيف في المناظرة إلى مبرّرات شتى، من قبيل أنه كاد يغفو أثناء المناظرة جراء إصابته بالإرهاق بسبب كثرة أسفاره وجولاته، وأنه كان مصابا بنزلة برد سبّبت "بحّة" في صوته، وأنه أنهى المناظرة بقوة. لكن هذه المبرّرات لم تقنع أحدا، حتى اضطر بايدن نفسه إلى الاعتراف بأنه "ارتكب خطأ"، لكنه أضاف أنه لن يدع 90 دقيقة، هي مدة المناظرة مع ترامب، "تمحو ما فعلته ثلاث سنوات ونصف السنة"، في إشارة إلى أن سياساته خلال ولايته الرئاسية تشفع له.
يتصوّر بايدن أنه بهذا التصريح ربما يجعل الناخبين يعيدون التفكير. لكن العجيب أن النظر في ما فعله بايدن حقا خلال هذه السنوات الثلاث (والنصف) يدعم كل ما يقال عن فشله وعدم صلاحيته. وأن التسعين دقيقة كانت تتويجا لفترته الرئاسية ولا تتناقض معها. لن يُشار في هذا المقام إلى وجهة نظر العرب والمسلمين، فمن الطبيعي أنها ستكون سلبية للغاية، إذ رعى بايدن مجازر الاحتلال الإسرائيلي المستمرّة في قطاع غزة للشهر العاشر على التوالي، وقدّم كل يمكن لاستمرار عمليات الإبادة، وأجهض محاولات وقف إطلاق النار في مجلس الأمن، ودافع عن مراوغة إسرائيل وتعنّتها في مفاوضات وقف إطلاق النار، وغيرها عشرات من القرارات والسياسات التي لا تكفي المساحة لسردها.
وحتى بالمعايير الأميركية، أخفقت إدارة بايدن بشكل مريع في فرض هيبة الولايات المتحدة وممارسة نفوذها على تل أبيب، فقد ظهرت الإدارة ذليلة مهانة، عاجزة عن فرض كلمتها، ومتراجعةً عن خطوط حمراء تحدّثت عنها مرارا، مثل شن عملية عسكرية واسعة في مدينة رفح، وكذلك التراجع عن قرار تعليق شحن أسلحة وقنابل بوزن 500 رطل إلى جيش الاحتلال. كما يظهر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مراراً ليهين إدارة بايدن وينتقدها علنا، ويتهمها بعدم دعم الإبادة بحقّ الشعب الفلسطيني بشكل كافٍ. ويعلن بصفاقة رفضه الصفقة التي أعلن عنها بايدن بنفسه في خطاب أكّد فيه أنها مقترحة من إسرائيل نفسها. كما تحوّل ما يسمّى "الرصيف الأميركي العائم" الذي كان من المفترض أن يقدّم مساعدات إلى النازحين في قطاع غزّة، إلى أضحوكة، إذ تعرّض للانهيار، وأعيد تفكيكه وتركيبه مرارا، بحجّة الظروف الجوية، وأصبح رمزا للفشل الأميركي في هذا الملف.
تفضّل إسرائيل ترامب على بايدن، لأنه سيدعمها من دون شروط، ومسلمو أميركا كرهوا سياسته (بايدن) بسبب الحرب على غزة
وإذا ذهبنا إلى القارّة العجوز، نجد الحرب الروسية الأوكرانية، فبينما تمكّنت إدارة بايدن في بداية الحرب من توحيد الدول الأوروبية ضد روسيا، وفرض عقوبات قاسية عليها، وإمداد أوكرانيا بالأسلحة والذخائر والتدريب والدعم المادي والعسكري والاستخباري، وهو ما ترجم إلى انتصارات عسكرية، إلا أن كييف تشهد تراجعا كبيرا خلال الأشهر الماضية أمام الجيش الروسي، وتمكّنت موسكو من تجاوز معظم العقوبات العربية وتكيّفت معها، ولا تزال أوكرانيا تستنزف مساعدات وأسلحة وذخائر من الولايات المتحدة وأوروبا، من دون أي أفق واضح لمآلات الحرب.
ورغم أن إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب هي التي وقعت اتفاقية انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، إلا أن تنفيذ الانسحاب وقع على عاتق إدارة بايدن، والتي سجلت إخفاقا مريعا، إذ عادت حركة طالبان إلى الحكم قبل حتى إكمال الانسحاب، الذي تحوّل إلى فوضى. وانتشرت مشاهد ذكرت الأميركيين بانسحابهم المهين من فيتنام، بعد سقوط العاصمة سايغون في قبضة الجيش الفيتنامي الشمالي عام 1975، وهروب بقايا القوات الأميركية والدبلوماسيين الأميركيين، وعدد من المسؤولين المتحالفين مع الولايات المتحدة في فيتنام الجنوبية، على متن طائرات مروحية، تاركين آلاف العملاء لمصيرهم، وهو ما حدث بالحرف عام 2021، حتى أن بايدن نفسه اعترف بالهزيمة، واصفا أفغانستان بأنها "مقبرة الإمبراطوريات".
أما عن أداء بايدن الشخصي، فقد كان مليئاً بزّلات اللسان والتصرّفات الغريبة، طوال هذه السنوات الثلاث (والنصف)، إذ أخطأ مراراً في ذكر معلومات وأسماء بلدان ورؤساء، وخلط بين موضوعاتٍ عديدة في أثناء خطاباته وتصريحاته، ما يجعل أداءه في المناظرة نتيجة متوقّعة. والآن، يبدو بايدن خاسراً الجميع، فإسرائيل تفضّل ترامب، لأنه سيدعمها من دون شروط، ومسلمو أميركا كرهوا سياسته بسبب الحرب على غزة، واللوبي الإسرائيلي يرى أنه لا يدعم تل أبيب بما فيه الكفاية. ويتعالى التذمّر من أجنحة في الحزب الديمقراطي نفسه بسبب الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل.
وأخيرا، يواجه بايدن مطالبات متصاعدة داخل حزبه بالانسحاب من السباق الرئاسي. وإذا حدث ذلك، سيصبح أول رئيس في تاريخ الولايات المتحدة ينسحب من الترشّح لفترة رئاسية ثانية، ليكون ذلك، إن تحقّق، أبرز ما فعله بايدن في سنوات حكمه، والإرث الذي سيتركه عندما يرحل غير مأسوف عليه.