المثقف النقدي بين أفكاره وواقعه

14 ديسمبر 2016

(منير الشعراني)

+ الخط -
ينتمي المثقف النقدي إلى إطار فكري يرفض، جزئياً أو كلياً، مجموع البنى الثقافية القائمة والموروثة، والتي تتشكل منها هوية المجتمع الذي ينتمي إليه ويعيش فيه، محاولاً، مع آخرين، يتفقون معه في الوجوه المستقبلية إيجاد فضاء آخر يخترق هذه البنى المجتمعية، ويؤسس لواقع مختلف. بهذا الصدام مع البنى القائمة والموروثة، لا يصطدم المثقف النقدي مع هوية المجتمع الذي يعيش فيه فحسب، بل يصطدم بهويته الأصلية التي تربى عليها أيضاً. وبين الانتماءات المتباينة للمثقف، تتصدّع الهوية، وتُصاب بشروخٍ نتيجة تعارضات الهوية الأصلية مع الهوية المكتسبة، وهو ما يولد غربة المثقف النقدي في مجتمعه، بوصفه صاحب هوية منشقة.
تتشكّل هوية المثقف الأصلية في إطار الثقافة التي يعيش ويكبر وينمو داخلها، والتي تتكوّن من منظومة ثقافية إدراكية وتقويمية للذات الفردية والجماعية، في علاقتها بالآخر. وتنعكس هذه المنظومة في السلوكيات الفردية، بتعاطيها مع القضايا المطروحة على الذات الفردية والجماعية. تحمل الثقافة صياغاتها المختلفة عبر مجموعةٍ من الرموز الثقافية التي تشكل قواعد إدراك الفرد والمجموع العالم الخارجي. ولأن الثقافة هي مجموع التحصيل المرجعي للعقائد والمعايير والقيم التي تصوغها التصورات الجمعية، وتشكّل الرموز المرجعية التي تطبع سلوك الذات، والمثقف النقدي في تكوينه الأصلي يقع أسير المعايير والقيم التي تمليها عليه الثقافة السائدة من تصوراتٍ معياريةٍ تطرح نفسها بديهيات يجب التسليم بها كما هي.
ولأن النظام الثقافي مجموعة من الأفكار المشتركة بين أفراد المجتمع، فهو يقوم عبر صور المخيال الاجتماعي التي كوّنتها الجماعة الثقافية عن نفسها. لذلك، تتحوّل إلى ذهنيةٍ يشترك فيها أعضاء الجماعة، وتتحول إلى مرجعية مستمرة ولا شعورية، وذلك من أجل إدراك الأشياء وتوجيه السلوك، فالذهنية تنطوي، في ذاتها، على رؤيةٍ خاصة للعالم، وعلى طريقةٍ للتعامل مع الأشياء، تحكم علاقة الإنسان بمحيطه، تبدو كبنية قوية عصية على التفكيك. لكن، على الرغم من القوة التي تظهر عليها هذه الثقافة، إلا أنها غير موحّدة، فهي تحمل تناقضاتها داخلها، وكل ثقافةٍ تحمل عوامل الانشقاق عنها داخلها، كما تحمل تناقضاتها مع ثقافات أخرى.
تهتز الذهنية التي يرثها المثقف النقدي عن محيطه الثقافي الطبيعي، مع تجربة التعرّف على
الوجه المنشق من ثقافته، أو التعرّف على ثقافةٍ أخرى، ما يولد التشكيك في ثقافته المحلية، لأنه أساساً ليس متلقياً سلبياً لها، بل هو متلقٍّ يتأمل ما يتلقاه من ثقافةٍ وقيم وأفكار. عندما تبدأ الشكوك أو التعامل مع تجارب الآخر تتسرّب إلى الباحث عن المعرفة والناقد لمجتمعه، تبدأ الشكوك حول النظام الثقافي الذي ينتمي إليه المثقف النقدي الذي ورثه عن إطاره المجتمعي، والذي كان بالنسبة له مسلماتٍ. عندها يشعر بالاغتراب الذهني بحكم الثقافة الجديدة التي حصّلها، ويُدهش من سلوك وردّات فعل المجتمع تجاه القضايا المطروحة عليه، ويستغرب لماذا لا ينسجم هذا السلوك مع المعايير الأفضل للنظام الثقافي الأفضل. ويصبح مغترباً في إطاره الاجتماعي، في الوقت نفسه الذي ينتمي فيه إلى حقل النظام الثقافي ذاته، ولكن لانتمائه إلى الجزء المنشق منه، فهو يضع النظام الثقافي والمعايير والقيم التي تحيط به موضع المساءلة والشك والرفض، وهو ما يُحدث معارضةً داخل هذه المجتمعات، تعمل على إيجاد حيز لها في فضاء المجتمع والثقافة التي يعيش داخلها، تنشئ تعدّدية في ثقافة ومجتمع تبدو صماء.
لا شك في أنّ هناك تداخلاً عميقاً ومركباً بين النظام الثقافي والذهنية والنظام المعرفي الفردي. لذلك، يقع المثقف النقدي في حالاتٍ كثيرة أسير الاختلاطات التي تفرزها الذهنية الجديدة، والانتماء إلى النظام الثقافي. في وقت يتخذ فيه المثقف المسافة النقدية ووجهة نظر أخرى من قضايا مجتمعه، ينشرخ الانتماء بين السلبي والإيجابي، بحيث تعاني الهوية الذاتية من تناقضات الانتماء، مولدةً شروخاً عميقة باتجاهات متعارضة، تولدها في ذات المثقف، كما هي موجودة موضوعياً في المجتمع نفسه.
إذا كان يمكن للفرد أن يخرج عن إطار التوحد مع نظامه الثقافي، بتبني معايير وقيم جماعة
أخرى غير جماعته، بوصفها نموذجاً مرجعياً له، ويمكن، بالتالي، أن يسعى إلى تحقيق التكامل مع هذا النظام الثقافي المرغوب، إلا أن النظام الثقافي القار في اللاشعور الفردي للمثقف النقدي يعيده، مرة أخرى، إلى المواقع التي يعمل على نقدها ونقضها. ومن هنا، الظاهرة الطبيعية المتناقضة التي نراها عند مثقفين كثيرين، التناقض بين أفكار المثقف النقدي التي يدافع عنها وسلوكه العملي الذي يجد نفسه فيه أسير البنية الثقافية المتمرّد عليها.
يمكن للمثقف النقدي تعريف هويته، وفقاً لرغبته الذاتية، أي وفقاً للصورة التي يملكها عن نفسه، وبالتالي، تحدّد هذه الهوية الدور الذي يعتقد المثقف النقدي أنه منوطٌ به، على قاعدة الوعي بهذه الإمكانات النقدية، وقدرتها على تغيير المجتمع، وتحويل الانتماءات الثقافية التي يعتبرها سلبيةً إلى أخرى نقيض لها، معتقداً أن هذه المساهمة النقدية تقوم على إعادة تحديد الهوية، بصورةٍ أكثر فعاليةً في حال اختراقه النظام الثقافي، والذهنية التي تعبر عنه. بذلك، يسعى إلى تكوين هويةٍ يعتقد أنها مثالية، وبما أن الآخرين ينظرون إلى هوية المثقف النقدي، بوصفها هويةً اختراقيةً مدسوسةً من خارج البنى الثقافية الموروثة، فإن رفضها بالحفاظ على النظام الثقافي، والتمسك به بشكل أكبر، في مواجهة الغزو الجديد، يجعل مهمة المثقف النقدي تبدو كأنها مستحيلة إلى حد كبير. وفي الوقت الذي يعتقد فيه المثقف النقدي أن هويته الجديدة التي ينتمي إليها قادرة على القيام بالاختراق، وأن انتماءه إلى الهوية الأصلية يدفعه إلى القيام بهذه المهمة، تنشأ أزمة الهوية عند المثقف النقدي. وفي وقت يعتقد فيه أنه ينتمي إلى هويتين، يجب أن تصلح إحداهما الأخرى، يجد نفسه لامنتمياً في إطار ضغط البنى الثقافية الداخلية، والاستلاب الذي يعانيه جرّاء الهوية الخارجية الملتبسة. بذلك، يبقى قلقاً بين هويتين، واحدة يفكّر بها، وأخرى يعيشها في مجتمع ينتمي إليه.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.