القسم للسيسي: كذبت وغدرت وخنت

06 يونيو 2014

السيسي يعلن في حوار تلفزيوني عدم امتلاكه برنامجاً (أرشيفية)

+ الخط -

"أقسم بالله العظيم"، (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)، من أخطر الأمور التلاعب بالقسم، ومنها اليمين الغموس التي يُغمس صاحبها في النار، لا تزال الاستهانة بالقسم، والحلف بالله العلي العظيم، حتى يحلف الكاذب ويحلف بالله أمام الله كذباً، ولا يستحي، لأنها دخلت في كيانه وكينونته، وصار "الحلّاف المهين"، ومن ثم صار عند بعض الناس حرفتهم القسم، وأيسر ما عنده القسم مع تيقن كذبه، أو احتياله، وكأنه يتخذ من ذلك سلّماً لتحقيق مصالحه، وبلوغ أهدافه، بالتمويه على الناس، وخداعهم واغتصاب تصديقهم. من هنا، كان التحذير ولفت الانتباه إلى سلوك سلبي، حتى مع افتراض الصدق (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ)، إلا أنه من الخطر (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)، ومنه قسم النفاق (يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا)، وقسم الحرامي (قالوا للحرامي احلف... قال جاءك الفرج)، لأن يستهين بأمر الله الذي يحلف به، إن الكذب فجور، والكذب مع القسم فوق الفجور، ظلمات بعضها فوق بعض.
اليمين الغموس هي اليمين الكاذبة التي يقتطع بها الإنسان حق أخيه بغير حق، هذه اليمين الغموس الكاذبة هي اليمين الفاجرة الغموس، فكل كاذبة فهي يمين غموس، لكنها تختلف، في الكبر والعظم، على حسب ما يترتب عليها من الظلم والشر، فماذا لو كانت اليمين الغموس ليست في حق فرد، أوعقد بيع وشراء، إنه يمين وقسم يتعلق بوطن وعموم الأمة، يتعلق بعموم الناس وحكمهم، يتعلق بإقامة مصالحهم وتحقيق مطالبهم، إنه يتعلق برئاسة الدولة اليمين الدستورية هي ما يقوم به رئيس الجمهورية، أو الملك، أو أعضاء الحكومة (في بعض الدول) في أي دولة عند توليه السلطة، وذلك بأن يُقسم أمام البرلمان (في أغلب الأحيان) بأن يحترم دستور البلاد، وأن يحافظ على استقلالها وسلامة أراضيها، علماً أنه لا يجوز لرئيس الدولة ممارسة مهامه وصلاحياته، قبل أدائه اليمين الدستورية، ويسمى في هذه الحال "رئيساً منتخباً"، ويبدأ احتساب مدة ولاية الرئيس من تاريخ أدائه لها.
في يوم الأحد، الثامن من يونيو/حزيران الجاري، أُعلن أن السيسي سيؤدي فيه القسم أمام المحكمة الدستورية، فى مظهر احتفالي زائف وكاذب في سياق إجراءات عملية "شرعنة" حالة انقلابية ظاهرة، وغطاءات انتخابية واستفتائية هزلية ومزورة وزائفة. من المهم، منذ البداية، أنه سيصدر قسمه بـ"أقسم بالله العظيم"، إلا أن القسم يبادره، ويقول له: كذبت وخنت وغدرت. لا نقول ذلك اعتسافاً أو تزيداً، ولا افتراءً، إنها الشواهد والمشاهد يمكن استحضارها، ولا يمكن إنكارها، بحيث تتحدث عن نفسها. في 3 يوليو/ تموز 2013، أعلن السيسي تعطيل الدستور. وفي اليوم التالي، وقف عدلي منصور يقسم بالله العظيم (أن أحترم الدستور والقانون)، وتساءل الناس البسطاء يومها ما هو الدستور الذي يحلف على احترامه، وهو يزهقه ويعطله.
في يوم آت، سيحلف السيسي بالله العظيم أن يحترم القانون والدستور، وهو، من قبل ومن بعد، أشد من هدم في بيان القانون وسخّط من قيمة الدستور. إن الانقلاب العسكري واختطاف الرئيس وتعطيل الدستور المستفتى عليه استفتاء حراً نزيهاً، والمصدّق عليه من أغلبية شعبية كبيرة (64%)، ثم قتل المصريين، وحرقهم، وخنقهم، وقمعهم، واعتقالهم، ومطاردتهم، وكبت حرياتهم، وتقسيم جماعتهم الوطنية إلى شعب وشعب، ومحاربة شبابهم ومستقبلهم، والاستخفاف بعقولهم، وترويج السفه والفسوق بينهم، وتزييف إرادتهم في دستور الانقلاب، ورئاسة الدم. ذلك كله لا يقوم معه صدق، فضلاً عن أن يجترئ من قام به على القسم بالله العظيم أن يحترم أي شيء، خصوصاً إذا ما تعلق بالقانون والدستور.


أين القسم من هذا كله؟ أين الحفاظ على النظام الجمهوري والتوريث يهدمه؟ تارة بنظام حسني مبارك الذي أراد توريث ابنه، وربما كان مشروع التوريث ذلك فيه نهايته وقيام الثورة عليه، أو توريث المؤسسات من نظام مستبد فاسد إلى غيره، وأين الولاء للأمة، والحاكم يعيث فساداً، ويخالف كل منطق، ولا يعبأ برأي، ولا يقيم للعدل دولة؟ بل هو إلى إقامة دولة الظلم والقمع أقرب، وتأسيس دولة قمعية بوليسية وفاشية عسكرية. رأينا ذلك رأي العين طوال أكثر من عشرة أشهر، وحينما سُئل عن برنامج ترشيحه، قال إنه لا برنامج له، ذلك أن برنامجه لم يكن إلا القتل والقمع، وأين رعاية مصالح الشعب، والشعب يزداد فقراً وجهلاً ومرضاً وضعفاً؟ وهو لا ينوي أن يحقق أي شيء من مطالبه، فليس لديه "مفيش.. مفيش ماعنديش.. مش قادر أديك حتموتوا مصر هتأكلوها" مطالبة بالتقشف، بينما السكوت عن وعلى الفساد ضرورة، هل يصدق السيسي إذا "أقسم بالله العظيم على أن يحافظ مخلصاً على النظام الجمهوري، أو أن يحترم الدستور والقانون، أو يرعي مصالح الشعب؟". إن دولة حسني مبارك تعود بشخوصها، وشبكات استبدادها ومؤسسات فسادها، القسم يكذب السيسي، وأفعاله تقول له أنت "الكذاب الأشر"، إنه ينقض القسم معنى ومبنى، لفظاً ومغزى، ويهدمه.
إنه قاطع الطريق، بغدره على مسار ديموقراطي، وعلى رئيس مدني منتخب، اختطفه بجرة سلاح، وها هو يأتي منصباً نفسه في انتخابات هزلية مزورة، بعد مقاطعة وممانعة شعبية وشبابية. حولوا الدولة إلى حالة أقرب فى سياساتها إلى المساخر، على رأسها، شكلاً، رئيس مؤقت، اجتمعت فى يده السلطات من تنفيذ وتشريع، ودستور ادعوا أنه أفضل دستور في العالم، خصوصاً فى باب الحريات، والذي لم يشهد الناس منه إلا قتلا وتكميماً واعتقالاً. الدستور في عرف انقلابهم ليس إلا حلية أو زينة، إنه ليس للتطبيق، بل للتمرير وسد الخانة، تصدر القوانين مضادة لجوهره وروحه، ها هو قانون التظاهر أكبر دالة على ذلك. وفي النهاية، يعود الرئيس المؤقت إلى منصبه في المحكمة الدستورية، فيكون المصدر للقوانين والمراقب لدستوريتها، في مسخرة كبرى، لا تعرف لها النظم مثيلاً.
دولة المساخر لا يهمها أي منطق، أو أي اعتبار، يرتبط بالقيمة، أو الآلية الديمقراطية، لا فصل بين السلطات أو غيره، إنها لغة الانقلاب والتزوير والبطش، تترجم إلى مسارات أمنية وسياسات قمعية. في كل هذه المعادلة، يكون تغييب الشعب استراتيجية وسياسة، البرلمان يؤجل، الرئاسة تتقدم تفعل ما يحلو لها. الرئيس كل مرة في بدعة قاهرة يحلف أمام المحكمة الدستورية، لا البرلمان، خلواً من أي رقابة شعبية، حتى يمكن تصنيع حالة برلمانية زائفة، بالعودة إلى إعادة اصطناع مؤسسات وتصنيعها، لا لتقوم بأدوارها، بل لإجهاض جوهر وظائفها، وتفريغها من مضمونها، إنها الصناعة الفرعونية لشبكة علاقتها الاستبدادية والفسادية والإفسادية.
إنها نفسية إدارة الغادر الكذاب الأشر التي لا تجد إلا في اليمين الغموس والقسم الفاجر أهم أدواتها، خصوصاً إذا كان الأمر يتعلق بالوطن والأمة، إنه يمرر كذبه بتصدير كلامه "أنا مش عايز أحلف ..لكن أقسم بالله ..أقسم بالله"، فيكون القسم الغموس الفاجر الكاذب غطاءً لتمرير كذبه، وإيهام الناس بصدقه. هل هناك أحد يمكن أن يصدقه في قسمه، وقد عهدنا به الغدر والكذب، القسم يرده، ويقول كذبت وخنت وغدرت.

 


 

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".