العيد.. كفرح مستقطع

24 سبتمبر 2015
+ الخط -

عيدكم مبارك.. وعساكم من عواده

أكتب هذا المقال لينشر يوم عيد الأضحى، في معناه الحقيقي رمزاً لطاعة الخالق، والبر بالوالدين، وفكرة الفداء، وسلاماً للنفس، وبهجة لها في الدين والدنيا. أحاول أن أعيش بهجة العيد المكتنزة في علبة مسراتٍ لا تنفتح إلا في تاريخ معيّن، ومحدد سلفاً، يتحتّم علينا أن نفرح فيه أياماً معدودات بصلاته الخاصة، ولبس الملابس الجديدة، وتبادل الزيارات العائلية، وترديد عبارات التهاني المحفوظة، وتناول الحلويات واللحوم، وتوزيع "العيديات" على الصغار، والتصالح مع الآخرين، أحياناً، بعد أن يجبّ العيد ما قبله من غضب وزعل.. وكفى بالمؤمنين فرحاً.

لكن، أي فرح أكثر من هذا في ظلال واقع مأساوي، نعيشه على أكثر من صعيد، ونخجل من إبداء بهجتنا تحت وطأة ثقله على النفس؟

أي فرح يمكن أن نتبادله بيننا بأنانية الذين يعيشون بعيداً عن مآسي الآخرين، ونحن نراهم على شاشات التلفزيون، قتلى وغرقى وجرحى وفاقدين ومفقودين ومهجرين ولاجئين؟

أي فرح يمكن أن يغشانا بالألوان والأضواء، ونحن نرصد أحوال الدمار وخراب الديار بين الدموع والدماء وصور الشهداء في أجزاء كثيرة من الوطن الكبير؟

العيد، في مفهومه الديني والاجتماعي، حالة فرح جماعي في تاريخ محدد، لكن تجاربنا المتراكمة، في أحوال الأعياد، علّمتنا أن الفرح أبسط من التخطيط له، وأن العيد أقل اتساعاً من دائرة الفرح، على الرغم من أشكاله وصوره الملونة في الذاكرة.

لكلٍ منّا عيده، أو أعياده الخاصة، والتي قد لا يتوافق فيها مع الآخرين حوله، لا في الزمان ولا في المكان ولا في المناسبة. وأعيادنا الخاصة هي أفراحنا الحقيقية التي نعيشها، أو ربما نخلقها، لنعيش فيها، بشروطنا ووفقاً لتعريف البهجة لدينا، منذ الطفولة، ذلك أنها صناعة منزلية، تصنعها الأمهات بموهبتهن السرية، أما زينتها فصناعة السوق في معاييره الاستهلاكية. والفرق واسع بين عيد تصنعه الأم لأبنائها وعيد يصنعه السوق لمستهلكيه. ومع هذا، تتضاعف أرباح السوق على حساب المستهلكين، وتكتفي الأمهات بما يزرعنه في قلوب أبنائهن ببهجةٍ، لا يعترفون غالباً بمصدرها الحقيقي.

ولهذا، تحضر صورة الأم لتكون هي العيد كلّه، في معناه ومبناه، في فرحته وصلاته، وفي كل تفصيلةٍ صغيرة تسبقه، أو تتفرع منه.

في ذاكرتي، مثلاً، عيدي هو "النفنوف"، أو الثوب الجميل الذي أحضرت لها، وأنا دون العاشرة، صورة طفلة أجنبيةٍ، ترتديه منشورة في قصاصة من مجلة، فسهرت ليلها كله، وهي تخيطه بمكينتها لأفرح به في الصباح، وأتباهى به بين صديقاتي المنبهرات، بعد أن أريتهن صورة الطفلة الأجنبية، وهي ترتديه.

عيدي هو ماء الورد في المرشّات النحاسية المصفوفة بأناقة في مدخل البيت، وهو دهن الورد المعتّق بقوارير صغيرة قابعة في صندوقها الخشبي، وهو رائحة الحناء السابحة في أجواء البيت، ولونه المطبوع على باطن كفيها وهما ترتفعان إلى السماء، دعاءً لا ينقطع بأن يحفظني الله وإخوتي من كل شر، وهو عبق "العود" المنتقى، كسرةً كسرةً، لما بعد الصلاة.

عيدي هو "العيدية" الأولى، منها عندما كنت طفلتها في سنواتي الأولى، وإليها عندما أصبحتْ طفلتي في سنواتها الأخيرة.

عيدي هو الذكريات العالقة بين السماء والأرض. كانت صلاة وهدايا وعطوراً منزلية، وأصبحت قبراً ينتظرني صباح العيد، بشوق الزيارة والسلام وفيض الدموع المالحة، والدعوات التي تتجاوز محيط قبر ندي، يتوسط مقبرة الجهراء، لتغمر قبور كل الراحلين هنا وهناك.. فهم السابقون ونحن اللاحقون، ذلك أنها رحلة عبور نعيشها بكل تقلباتها، وما فرح العيد فيها إلا وقت مستقطع، ذلك أن رحلة الحياة كلها مجرد وقت مستقطع.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.