العنصرية والتطرّف ومصيبتنا الكبرى

02 يوليو 2018
+ الخط -
يتساءل المرء، في أحيان كثيرة، عن أسباب التخلّف المقيم في مجتمعاتنا العربية ما أقامت ميسلون، ويخلص إلى نتائج مكرورة، غالباً ما أُشبعت بحثاً وتحليلاً، عن مسؤولية الاستعمار والاستبداد السياسي والتبعية الاقتصادية والفساد الإداري والجهل والأميّة... ولكن قليلاً ما تم الحديث عن العنصرية سببا، وعن التطرّف سببا ونتيجة في آن معاً.
العنصرية بالتعريف هي "الأفكار والمُعتقدات والقناعات والتَّصرفات التي ترفع من قيمة مجموعة معينة، أو فئة معينة، على حساب الفئات الأخرى، بناءً على أمور مورّثة مرتبطة بقدرات الناس أو طباعهم أو عاداتهم، وتعتمد، في بعض الأحيان، على لون البشرة، أو الثقافة، أو مكان السّكن، أو العادات، أو اللغة، أو المعتقدات. كما أنّها يُمكن أن تعطي الحق للفئة التي تم رفع شأنها بالتحكّم بالفئات الأخرى في مصائرهم وكينونتهم، وسلب حقوقهم، وازدرائهم بدون حق أو سبب واضحٍ. أما التمييز العنصريّ فهُو معاملة الناس بتفرقة وشكل غير متكافئ، وتصنيفهم اعتماداً على انتماءاتهم إلى عرق، أو قوميّة معينة، وإنشاء جو عدائي، ومُهين، ومُذل بناءً على أسس العنصرية الآنفة الذّكر.
ثمّة موروثات وعادات وسلوكّيات كثيرة تشرّبتها مجتمعاتنا العربية عبر السنين، تؤدّي إلى أفعال وسلوكيّات عنصريّة تنطبق والتعريفات المذكورة أعلاه، نمارسها من دون أن نشعر بها أو ندرك خطأها، وهذا بحدّ ذاته من أكبر المصائب، فالعنصرية خطيئة الإنسانية، والخطيئة الأكبر ممارسة هذه العنصرية من دون شعورٍ بذلك أو إدراك له. تصنيفاتنا لبعضنا بعضا نحن البشر، ولتصرّفاتنا ومعتقداتنا، لم تخرج بعدُ من دائرة العنصرية الفجّة، ولم تصل بعدُ إلى عتبة الإحساس الإنساني بقيمة التنوّع والاختلاف والتباين.

عند المقارنة بين الشعوب بالمجمل، نقول هذا الشعب الفلاني العريق وذاك الشعب العلّاني الهمجي، أو عندما نقارن بين الأديان بسطحيّة، نقول هذا الدين السمح، وذاك الدين المتطرّف، وذيّاك الدين المتعصّب، أو عندما نصنّف الثقافات بغباء، نقول هذه الثقافة المتحجرة وتلك الثقافة المنفتحة وهاتيك الثقافة المتعصّبة، فإننا نرتكب الحماقات التي دأب على ارتكابها البشرُ قبل تفتّح الوعي على قيم حقوق الإنسان وقيم التسامح والمساواة والكرامة البشرية واجبة التقديس في السنوات الخمسين الأخيرة. ليس ذلك فحسب، لكننا نخالف مضمون المصطلحات المستعملة ذاتها، فالدين لا يمكن أن يكون متعصّباً لأنه من عند الله، وهو أجلّ وأعلى من أن يكون من أوصافه التعصّب، والثقافة مستوى معينٌ من المعارف، وصلت إليه البشرية عموماً أو شعب ما في لحظة ما، فلا ينطبق عليها صفات مجرّدة مثل أنها مغلقة أو متحجرة، لأن ذلك يناقض تعريفها بالأساس، فهي معارف وعلوم وخبرات وتجارب، فكيف يكون لها مثل هذه الأوصاف؟ لكل ثقافة خصائصها، و هذا ما دأب علماءُ الاجتماع على التغني به، فتعدّد الثقافات إغناء للبشرية، فتصوّر لو كانت السنة كلّها صيفا أو شتاء، كيف سيكون حال بعض الشعوب التي تسكن مناطق معينة؟
ثم قياساً لمن يمكننا المقارنة بين الشعوب والثقافات والأديان، هل هناك مصدرٌ ما يمكننا اعتباره مقياساً أو ميزاناً؟ تتعلق المسألة فيما نحن نؤمن به أو نحسبه أو نظنّه مُطلقاتٍ غير قابلة للجدل.
ننظُرُ، استناداً إلى فهم خاطئ للتاريخ وإلى قراءات وتفاسير مضى زمنها، إلى الغرب على أنه أدنى قيمة منّا لسبب واحد، هو أننا مسلمون، وأهل الغرب ليسوا كذلك، وكأنّ الله تعالى حصر مخاطبته بالمسلمين فقط، ولم يخاطب الناس أجمعين عندما قال في الآية 13 من سورة الحجرات: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
بل أكثر من ذلك يذهب بعض أصحاب الفكر المتطرّف، والذين لا يعون من نصوص القرآن إلا كلماتها من دون الخوض في معانيها، بعيداً في التطرّف، ليعتبروا كلّ منجزات الغرب العلمية والصناعية ومكتشفاته مسائل محسومةً في القرآن الكريم، ومحكيا عنها قبل 1400 عام، متناسين أننا عجزنا عن اكتشافها أو معرفتها (فيما لو سلّمنا بصحة وجودها جدلاً) قبل أن يُظهرها الغربُ لنا، على الرغم من أننا منذ أربعة عشر قرناً نقرأ القرآن الكريم! وبالمناسبة، لا يختلف هؤلاء عن أنصار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مثلاً الذين يعتبرون وجود عرق أو لون معين في مجتمعاتهم بمثابة لوثة تخرّب مجتمعاتهم.
كيف يستقيم ما يقوله هؤلاء إنّ ما أنجزه الغرب في سنين مضت ليس إلا مجرّد أشياء ذكرها القرآن، متناسين أن هذا التراكم جاء نتاجاً لعلوم ومعرفة وأبحاث ينفق الغرب عليها من المال ما لا يمكن لبشرٍ تصوّره؟ ثم لو أننا سلمنا بما يقول هؤلاء، فهم بذلك يبطلون نظرية تميّزهم، فكيف للغرب أن يستفيد من القرآن بشكل عملي، بينما أهله لا يرون منه سوى القشور؟
هذه العنصريّة المبنيّة على السموّ الكاذب، والمستندة على أساس فارغ أجوف، بمثابة خطّ دفاع نفسي لا شعوري عن هزيمتنا الداخلية، وهي إقرارٌ بغيابنا عن ساحة الإنتاج الحضاري، منذ استسلمنا لوهم التميّز عن باقي البشر وخرافته، لمجرّد أننا أتباع الدين الإسلامي، من دون أن نُقرنه بإنتاج معرفي حقيقي مما خاطب به الله عزّ وجلّ رسوله الأعظم خاتم النبيين بقوله "اقرأ".
تعكس سياساتُ بعض الدول وتقسيماتها المقيمين على أرضها، حسب معايير اخترعتها من العدم، هذا التعزيز المضطرد لشعور العنصرية والتميّز الأجوف، من دون إدراك أنّ وجود تلك الفئات هو المحرّك الأساسي لاقتصاد هذه الدول. وفي حين هناك سياساتٌ تخص المواطنين وسياسات تخص الوافدين، نرى تلك الدول نفسها تعامل بعض مواطنيها باعتبارهم رعايا، لكونهم أنصار تيار سياسيّ معين، أو يؤمنون بمذهب معيّن. وترى، في المقابل، معاملة الإنسان الغربي على أرضهم مختلفة جذريّاً، لعلمها أن هذا الإنسان يستطيع أن يقاضي ويلاحق هذه الحكومات عبر قانون بلاده.
أساس التقسيم الذي لا يستند أبداً للكفاءات العلمية أو الأدبية أو الفكرية، أو لما قدّمه هذا الفرد أو ذاك من قيمة مضافة لمجتمعه، بل يستند إلى المنشأ والمنبت والعائلة وحجم الثروة والقرب من السلطة الحاكمة، هو جوهر العنصريّة، وقمّة الانزياح عن الإنسانية في السلوك والتقييم والتعامل. ولا حاجة لذكر أمثلةٍ عن تعامل المواطنين مع الوافدين من العمال أو خدم البيوت أو غيرهم من أصحاب المهن القادمين من آسيا وأفريقيا.
وفي المجتمعات التي يفترض أنّها قطعت شوطاً أطول في مضمار التحضّر تندرج إلى تقسيمات الطائفيّة والقبليّة والعشائرية والعائلية والمناطقية والعرقية والإثنيّة والقومية، وهي تقوم على مبدأ المفاضلة بما لا يمكن المفاضلة به، فما يدرينا أيهم أفضل: العربي أم الكردي، الدرزي أم
العلوي، المسلم أم المسيحي، وعلى أي أساس نبني هذه المفاضلة، ومن أيّ منظور، وبأي مقياس؟ تنقلنا هذه العقليّة العنصرية إلى عوالم مظلمة من التطرّف، فمن يظنّ نفسه أفضل من الآخر وأرقى يستطيع أن يبرّر لنفسه نفي هذا الآخر وإقصاءه. ومن هنا جاءت أفكار التكفير التي تبنتها تنظيمات الجهاد الإسلامي، بدءاً من "القاعدة" وليس انتهاءً بداعش.
في المقابل، ليست هذه العنصرية جزءاً من تكويننا البيولوجي، ولم نتوارثها جينيّاً من أسلافنا، بل هي نتاج طبيعي للحياة الاجتماعية التي نعيشها، ولم نكن نحن الوحيدين الذين مررنا بهذا الطور، بل جميع المجتمعات البشرية مرّت به، ومنها من تجاوزها نسبيّاً، ومنها من لم يزل يصارع مثلنا للخروج إلى عوالم الإنسانيّة الأرحب. وهذه العنصريّة سبب للتخلّف الاجتماعي، ونتيجة له في الوقت نفسه، فهي تتأثر بمستوى المجتمع المعيّن المعرفي العلمي والثقافي، كما تتأثر بالمستوى الاقتصادي وبمستوى الحريات العامّة، وبمدى سيادة القانون، وبمستوى الديمقراطية والحريّات السياسية. وفي المجمل، بالمستوى الحضاري لهذا المجتمع. كلّما ارتقى المجتمعُ حضارياً يخفّ التطرف والعنصرية، والعكس صحيح.
ثمّة عقدة مركّبة، لم نستطع التخلّص منها تجاه الغرب المتقدّم علينا، ليس فقط تكنولوجياً ومعرفياً، بل وأخلاقيّاً وقيميّاً، فنحن نعتبره، من جهةٍ، صانعاً للمعرفة، منتجاً للعلم، وندرك أننا مجرّد مستهلكين طفيليين. وفي الوقت نفسه، ننظُرُ إليه نظرة دونية لتصنيفنا العنصري له على أساس الدين السائد في مجتمعاته.
يزداد هذا التناقض يوماً بعد يوم، ولن نستطيع التخلص منه قبل أن نتصالح مع أنفسنا، وقبل أن ندرك حجم الفوات الحضاري الذي ألمّ بنا، ومدى البون الشاسع معرفياً بين مجتمعاتنا والمجتمعات التي نتعالى عليها بكل جهل وسخافة.
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود