العنصرية... كخبز يومي

22 سبتمبر 2014
في أحد شوارع بيروت (أنور عمرو/ فرانس برس/ Getty)
+ الخط -
كانت النرجيلة القاسم المشترك في تلك السهرة، التي كان نجمها شاب لم يصل للعشرين من عمره. لنفترض أن اسمه زياد. هو منتسب لأحد الأحزاب اللبنانية التي كان لها تاريخ دموي في الحرب الأهليّة اللبنانيّة. يروي زياد عن ليلةٍ منذ أسبوعين قرّر فيها هو وأصدقائه ممن يُشكلون "أمن البلدة"، التأكّد من عدم وجود سلاحٍ لدى مجموعة من العمال السوريين الذين يُقيمون في إحدى الغرف: "همّنا أمن البلدة، لذلك نقوم بجولات تفتيش بشكلٍ عشوائي لضمان عدم حصول سرقات أو أي أعمال أمنية إلى جانب دورياتنا اليوميّة". تنتهي كل جملة يقولها زياد بضحكة طويلة. يشرح كيف دخلوا عنوة، وتفاصيل التفتيش وكيف أن "كل واحد أكل كم كف حتى لا يفكروا بفعل أي شيء". بالطبع لم يجدوا مسروقات ولا سلاح. والأكيد أكثر أن لا أحد حاسب زياد ورفاقه.

عند حصول أي سرقة أو جريمة في أي بلدة لبنانية، يتحوّل السوريون فيها إلى متهمين عليهم إثبات براءتهم. صار الأمن الذاتي المرتبط بالسوريين مقبولاً اجتماعياً. وصار العنف تجاه السوريين محط ترحيب في أوساط واسعة من اللبنانيين. تضع صحافية لبنانيّة صورة لعشرات العمال السوريين يجلسون القرفصاء وأيديهم فوق رؤوسهم من منطقة جزين (جنوب لبنان)، خلال مداهمة الجيش اللبناني لمكان عملهم، فتنهال الشتائم عليها. يتم التشكيك في وطنيتها. وتُعلن محطة تلفزيونيّة عن أن "ستة مقاتلين من داعش يُعالجون في المستشفى الحكومي في بيروت،" فيتجمهر العشرات حول المستشفى استنكاراً؛ وتنشر جريدة "السفير" اللبنانيّة أن عدداً من أطباء المستشفى رفضوا علاج هؤلاء، من دون أن يترك هذا الأمر أي ردة عند الجهاز الطبي في لبنان.
بات التعدي على السوريين فعلاً يومياً في المشهد اللبناني. تجاوز الحادث الفردي هنا وهناك، ليُصبح عملاً ممنهجاً. في أيامٍ قليلة، تُصدر بلديات من مناطق مختلفة من لبنان بيانات تُحدّد للسوريين (لاجئين وعمالا) ساعة عند المساء (بين السابعة والتاسعة مساءاً) لا يُمكنهم بعدها التجوّل حتى السادسة صباحاً، إلا بإذن مسبق. وتطور الأمر مؤخراً لأن تمنع الكثير من البلدات تأجير المنازل للسوريين. في أحد المخافر، اتصل الشرطي بالمدعي العام ليُبلغه بأن نتيجة فحص المخدرات الذي طلبه للموقوف السوري جاءت سلبية. سأله المدعي العام عن إقامته، أجاب الشرطي بأنه لا يحمل واحدة، لكنه يقول إنه يُمكن أن يطلب من صديقه إحضارها لو تمكن من الاتصال به. ثم سأل المدعي العام عن المضبوطات، فأجاب أنه معه سكين مطبخ صغيرة، وأن الموقوف قال إنه يستعملها لتحضير الخضار، وأن عليها آثار لبقايا خيار. فما كان من المدعي العام إلا أن أوقفه بتهمتين: حيازة سكين، والإقامة من دون أوراق شرعية. صارت مداهمات الأجهزة الأمنية وإحالة العشرات إلى القضاء بتهمة الإقامة غير الشرعية خبراً يومياً في لبنان، رغم أن هذا الوضع قائم منذ سنوات.

في الأسابيع الأخيرة، تحوّل الأمر إلى تمييز فاقع. عند الحواجز يُسأل المارة: "لبناني أو سوري؟". الهوية كفيلة بخضوعك لتحقيق مهين أو لا. كونك سوري، يعني أنك ستتعرض للضرب ربما، ولإهانات كلامية بالحد الأدنى. في إحدى المداهمات في منطقة البقاع الغربي، تلقى مواطن سوري سلسلة من الصفعات قبل دخوله إلى منزله.
الضاحية الجنوبية لبيروت مكان خطير على السوريين. قلّة من أبناء الضاحية قررت العقاب الجماعي للسوريين. تتنقل هذه القلّة على دراجاتها النارية لتصطاد السوريين وتنهال عليهم بالضرب، خصوصاً في ساعات المساء. كُثر من أصحاب المصالح الاقتصادية صاروا يتولون إيصال العاملين لديهم من السوريين بشكل شخصي، ليضمنوا عدم تعرض هؤلاء للاعتداءات. لا يختلف الأمر كثيراً في معظم المناطق اللبنانيّة. في البقاع الشمالي والأوسط وفي الجنوب تعرضت عدة مخيمات للاجئين السوريين لإطلاق نار من قبل مجهولين وللإحراق. سيبقى هؤلاء مجهولين إذ لن يحصل أي تحقيق. في وادي الزينة عند مدخل مدينة صيدا جنوب لبنان، طُلب من السوريين إخلاء أحد المخيمات. حتى البيئة التي أعلنت تضامنها مع الثورة السورية تعاطت مع اللاجئين كأنهم "طفيليات" لا كبشر. تم استغلالهم لأقصى الدرجات.
في طرابلس، شمالي لبنان، عُرض على رجل أربعيني العمل مقابل دولار واحد في اليوم، وعندما رفض قيل له: "سوري ولاجئ وبدك أكتر، ما عم تعطيكم الأمم (مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين) أكل". في البقاع، تروي إحدى العاملات في جمعية تُعنى بحقوق الأطفال، كيف تمنع الكثير من العائلات بناتها من ارتياد المدارس خوفاً من التحرش الجنسي الذي يتعرّضن له؛ تحرّش تُحمَّل الفتيات مسؤوليته! في البقاع أيضاً، تروي إحدى النساء كيف اضطرت للقبول بأن تتحوّل إلى "جارية" لصاحب أحد الكاراجات، مقابل السماح لها ولأمها وولديها استخدام الكاراج كمنزل. لا يُمكن إحصاء عدد الاعتداءات الذي يتعرض لها السوريون بشكلٍ يومي في لبنان. قلة من اللبنانيين تعترض في الشارع. رفع هؤلاء شعاراً في بيروت: "أهلا باللاجئين والعمال السوريين في لبنان... عذراً عمّا يفعله العنصريون منا". لكن كُثر يبدون اعتراضهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. اعتراض لا يُعوّل عليه كثيراً لأنه لم يتحوّل إلى رأي عامٍ يمنع هذه الممارسات، أو على الأقل يحوّلها إلى رذيلة في المجتمع بدل أن تكون موضع فخر.
لا يُمكن القول إن غالبية من اللبنانيين تقوم بأعمال عدائية تجاه اللاجئ والعامل السوري في لبنان. لكن الأكيد أن هناك رأياً عاماً بدأ بالتبلور ضد هؤلاء. تكاد تكون قوى الثامن من آذار عماد هذا الرأي العام، من دون أن تنحصر بها. شيئاً فشيئ ينتشر هذا المزاج العام بين عموم اللبنانيين.
المساهمون