24 أكتوبر 2024
العمل الحزبي في تونس.. الأزمة والمشكلات
تشكل الأحزاب مؤسسة أساسية في الحياة الديمقراطية، بوصفها تنظيمات تمنح العمل السياسي شكله الأكثر عقلانية وقدرة على التعبير عن مطالب المواطنين في الدولة الحديثة، فالأحزاب بصورتها الحداثية نشأت لتحل محل التعبيرات القديمة القائمة على الاحتماء بالعشيرة أو القبيلة أو الطائفة، ولتتعامل مع الناس بصفتهم المواطنية، وهي تجمع بين الأفراد على أساس الانتماء لتصور سياسي/أيديولوجي محدد، يساعد على تأطير جماهير الناس من أجل التعبير عن تصوراتهم، وتحويلها إلى برامج فعلية، قابلة للتنفيذ عند الوصول إلى الحكم، عبر الآليات الديمقراطية المعروفة، ونعني بها الانتخابات، أولاً وأخيراً.
والأحزاب السياسية في مهامها المركزية تقوم بجملة واجبات أساسية، يمكن اختصارها في نقاط، أهمها تأطير المواطنين، وإيجاد منفَذ للفاعلين السياسيين للعمل والتأثير، وإعداد الكوادر القادرة على إدارة الشأن العام. وهي من الناحية التنظيمية الأطر القادرة على اجتذاب العناصر النوعية، ومنحها الفرصة للقيادة وتصدر العمل العام.
يأتي هذا المدخل النظري العام من أجل تحديد المجال المفهومي العام الذي تتحرك ضمنه الأحزاب، في مجتمع ديمقراطي طبيعي، من دون أن يعني هذا إغفال وجود أشكال حزبية مختلفة، قد لا تتواءم مع هذا التعريف، ولأن هذه الأرضية النظرية للأحزاب السياسية، بمعناها الحديث، تستلزم المساواة المطلقة بين الأعضاء ومبدأ التصعيد عبر الانتخاب والمحاسبة الداخلية، وسيادة روح الديمقراطية داخل الأحزاب، ورفض فكرة المعصومية والولاء للزعامات والقيادات.
غير أن استنبات الأحزاب في البيئة العربية سرعان ما انحرف بها عن أسسها الحداثية، المتعارف عليها، ولتصبح مجرد جماعات تقوم على الولاء للقائد والزعيم الملهم العارف بأحوال السياسة، والقادر على إدارة شؤون الحزب بالمواهب الإلهية التي يتحلى بها، فيقرب من يشاء ويبعد من يشاء. ولا يتعلق الأمر، هنا، بالجماعات الإسلامية وحدها، وإنما أيضاً بالتنظيمات العلمانية نفسها التي ترفع الديمقراطية شعاراً.
وإذا كانت تونس تخلو من أحزاب يتواشج فيها الطائفي مع السياسي، على النحو الذي نراه في حزب الله اللبناني، أو جماعة أنصار الله الحوثيين، أو حتى الحزب الاشتراكي التقدمي اللبناني، أو حزب الكتائب، حيث يكون الحزب مجرد رداء مهلهل للتغطية على عوار الطائفية السياسية، فإنها تعاني من مشكلات حزبية حادة، تؤثر سلباً على المشهد السياسي الناشئ في البلاد، إثر الثورة وسقوط نظام الاستبداد.
والغريب أن الظاهرة تمس الأحزاب جميعاً، الإسلامية منها وما تُسمّى بالأحزاب العلمانية التونسية نفسها التي تقع في المطب، فهي في غالبها تقوم على علاقة عمودية بين قيادة تتمتع بصلاحيات مطلقة، ولا تخضع للمساءلة، ومنخرطين هم أشبه بالرعايا السياسيين، عليهم السمع والطاعة. ولنا في نموذج حزب العمال الشيوعي التونسي مثال، حيث لازال حمة الهمامي زعيماً للحزب منذ التأسيس سنة 1986، وإذا كان مبرر القمع مشجباً كافياً لغياب الديمقراطية والتداول على القيادة زمن الاستبداد، فإن الخروج إلى العلنية والمشاركة في الحياة السياسية بعد الثورة يطرح أكثر من سؤال.
وهو أمر له مثيل في حزب "التكتل" بزعامة مصطفى بن جعفر، أو في الحزب الجمهوري (بزعامة نجيب الشابي)، وبصيغه التاريخية المختلفة (التجمع الاشتراكي التقدمي، الحزب الديمقراطي التقدمي)، حيث ظلت قيادته التاريخية تعيد إنتاج نفسها بصيغ مختلفة، أدت إلى حصول انشقاق داخل الحزب، وضمور قاعدته الانتخابية بصورة كارثية. وينطبق الأمر بالصيغ نفسها على أحزاب أخرى كثيرة في تونس، التاريخية منها أو الحادثة بعد الثورة، حيث يلعب منطق الولاء للزعيم الفرد المتحكم في كل مفردات القرار السياسي الدور الأساسي في الحزب (شخصية الباجي قايد السبسي في نداء تونس مثلاً) أو الشخصية المحورية للشيخ راشد الغنوشي في حركة النهضة. وقد عانت الأحزاب السياسية التونسية من انشقاقات واسعة، أثرت عليها انتخابياً، بسبب غياب آليات إدارة الحزب السياسي بصورة عقلانية، تسمح بالتداول على القيادة، أو حفظ التنوع داخل كيان الحزب، وهو أمر يمكن رصده لدى حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي تفكك إلى ثلاثة مجموعات حزبية (حركة وفاء، التيار التقدمي، حزب المؤتمر)، كما فشلت الأحزاب القومية في أن تتوحد، وظلت تعاني من التشظي التنظيمي، على الرغم من وحدة الخلفية الأيديولوجية، فحركة الشعب الناصرية تفككت إلى أكثر من حزب سياسي، وكذلك التيار البعثي، أما الأحزاب الليبرالية فقد فشلت في إيجاد صيغة تجمعها، على الرغم من تقاربها فكراً وأيديولوجياًً، وفي الأرضية السياسية. وفي الإجمال، يمكن تلخيص أهم مشكلات الأحزاب السياسية التونسية بأنها:
ضغوط أمنية شديدة في عهد الاستبداد، وهو ما منع الأحزاب من التشكل بشكل طبيعي، بالإضافة إلى ما عمد إليه النظام البوليسي، برئاسة بن علي، من اختراق للأحزاب، وإعادة تشكيلها وفق توجهات السلطة الحاكمة في حينه، وهو أمر ظلت تأثيراته السلبية مستمرة إلى ما بعد الثورة ودخول زمن التعددية.
حداثة التجربة الديمقراطية في تونس، وعدم قدرة قيادات حزبية كثيرة على تمثلها إلى الحد الذي يجعل كيانات سياسية، تكتفي بأحجامها الضئيلة جماهيرياً، على أن تأتلف مع غيرها ممن يتقارب معها فكراً وتوجهاً.
معظم قيادات الأحزاب التونسية تنتمي إلى شريحة عمرية جاوزت الستين، ما منع الشباب من تولي مناصب قيادية، والتأثير على الخيارات المركزية للتنظيمات السياسية، ما دفعه إلى الانشقاق، والتشكل في مجموعات صغيرة.
الفوضى التنظيمية التي أصابت المشهد السياسي التونسي، بعد 14 يناير/كانون ثاني 2011، ولا يرجع ذلك إلى أن تعدد الفصائل والأحزاب السياسية يعبر عن خلافات جوهرية، أو أنه مبني على ضرورات موضوعية، وإنما على العكس تماماً، إذ يصعب على أي باحث أن يكتشف أي فروق جوهرية بين تلك الفصائل، تماماً كما يسهل على مرتادي المقاهي السياسية ومجالس النميمة إدراك أن الشخصانية والتعنت والرغبة في تصدر المشهد من جانب، وانسداد قنوات التعبير داخل الأحزاب التاريخية، فضلاً عن تمسك القيادات بمواقعها من جانب آخر، هما السببان الجوهريان لحالة التعدد الكاذب للقوى السياسية في تونس.
عزوف جيل الشباب عن الممارسة الحزبية، بل وحتى الانخراط في الشأن العام (مثل المشاركة في الانتخابات) منح القوى الأكثر تنظيماً من اكتساح المشهد الانتخابي، وأعطى الفرصة لقوى النظام القديم للعودة إلى السلطة.
دور المال السياسي في إفساد المشهد الحزبي في تونس بعد الثورة، حيث نجد حضوراً واضحاً للوبيات المالية ورجال الأعمال الفاسدين في التحكم في مكونات حزبية كثيرة، وهي تتحرك بدافع امتلاك مزيد من النفوذ، وتوجيه الرأي العام خدمة لمصالح خاصة.
تكمن أزمة الأحزاب السياسية التونسية بعد الثورة في أنها لم تصل بعد إلى درجة النضج، وفهم معنى الحزب السياسي في بنيته العميقة، باعتباره، وبالدرجة الأولى، مدرسة للتربية السياسية للمواطن، ينخرط فيها ليتدرب على مساهمته في الشأن العام، وعلى ممارسة حقوقه السياسية الأساسية، ولكن تحقيق هذه المهمة، في صورتها المثلى، ليس بالأمر اليسير في ظل حالة الاضطراب التنظيمي الذي تشهده غالبية الأحزاب، وحالات الانشقاق التي تعرفها، بالإضافة إلى ما تعرفه من ارتحال لناشطيها، بصورة تذكّرنا بانتقالات لاعبي كرة القدم، وما يزيد المشهد قتامة انبناء أحزاب كثيرة على منطق الزعيم الأوحد، ما يجعلها أشبه بالشتات الذي تجمعه المصلحة الآنية، أكثر مما هي تنظيم ذو بنية واضحة وأهداف محددة. فالحزب الحقيقي كتنظيم عقلاني للفعل السياسي، وإن كانت تتجاذبه، أحياناً كثيرة، جماعات الضغط والمصالح، فإنه يهفو دائماً إلى النموذج العقلاني الأمثل، وهذا قوامه السعي إلى تحويل الحزب إلى بنية جماعية متآلفة عضوياً، أي إلى عقل جماعي، يتناقش فيه جميع الأعضاء حول قضايا الشأن العام.
ويظل الأمل قائماً في إمكانية إعادة تشكل المشهد الحزبي التونسي، ومجاوزته مشكلاته تنظيمياً وأيديولوجياً، حتى يساهم بشكل أكبر في استقرار العملية السياسية، والتقدم صُعُداً في بناء العملية الديمقراطية في البلاد، وهذا أمر يفرضه الواقع الجديد، ومهمة عاجلة على عاتق الناشطين الحزبيين، لعمري، لا تقبل التأجيل.
والأحزاب السياسية في مهامها المركزية تقوم بجملة واجبات أساسية، يمكن اختصارها في نقاط، أهمها تأطير المواطنين، وإيجاد منفَذ للفاعلين السياسيين للعمل والتأثير، وإعداد الكوادر القادرة على إدارة الشأن العام. وهي من الناحية التنظيمية الأطر القادرة على اجتذاب العناصر النوعية، ومنحها الفرصة للقيادة وتصدر العمل العام.
يأتي هذا المدخل النظري العام من أجل تحديد المجال المفهومي العام الذي تتحرك ضمنه الأحزاب، في مجتمع ديمقراطي طبيعي، من دون أن يعني هذا إغفال وجود أشكال حزبية مختلفة، قد لا تتواءم مع هذا التعريف، ولأن هذه الأرضية النظرية للأحزاب السياسية، بمعناها الحديث، تستلزم المساواة المطلقة بين الأعضاء ومبدأ التصعيد عبر الانتخاب والمحاسبة الداخلية، وسيادة روح الديمقراطية داخل الأحزاب، ورفض فكرة المعصومية والولاء للزعامات والقيادات.
غير أن استنبات الأحزاب في البيئة العربية سرعان ما انحرف بها عن أسسها الحداثية، المتعارف عليها، ولتصبح مجرد جماعات تقوم على الولاء للقائد والزعيم الملهم العارف بأحوال السياسة، والقادر على إدارة شؤون الحزب بالمواهب الإلهية التي يتحلى بها، فيقرب من يشاء ويبعد من يشاء. ولا يتعلق الأمر، هنا، بالجماعات الإسلامية وحدها، وإنما أيضاً بالتنظيمات العلمانية نفسها التي ترفع الديمقراطية شعاراً.
وإذا كانت تونس تخلو من أحزاب يتواشج فيها الطائفي مع السياسي، على النحو الذي نراه في حزب الله اللبناني، أو جماعة أنصار الله الحوثيين، أو حتى الحزب الاشتراكي التقدمي اللبناني، أو حزب الكتائب، حيث يكون الحزب مجرد رداء مهلهل للتغطية على عوار الطائفية السياسية، فإنها تعاني من مشكلات حزبية حادة، تؤثر سلباً على المشهد السياسي الناشئ في البلاد، إثر الثورة وسقوط نظام الاستبداد.
والغريب أن الظاهرة تمس الأحزاب جميعاً، الإسلامية منها وما تُسمّى بالأحزاب العلمانية التونسية نفسها التي تقع في المطب، فهي في غالبها تقوم على علاقة عمودية بين قيادة تتمتع بصلاحيات مطلقة، ولا تخضع للمساءلة، ومنخرطين هم أشبه بالرعايا السياسيين، عليهم السمع والطاعة. ولنا في نموذج حزب العمال الشيوعي التونسي مثال، حيث لازال حمة الهمامي زعيماً للحزب منذ التأسيس سنة 1986، وإذا كان مبرر القمع مشجباً كافياً لغياب الديمقراطية والتداول على القيادة زمن الاستبداد، فإن الخروج إلى العلنية والمشاركة في الحياة السياسية بعد الثورة يطرح أكثر من سؤال.
ضغوط أمنية شديدة في عهد الاستبداد، وهو ما منع الأحزاب من التشكل بشكل طبيعي، بالإضافة إلى ما عمد إليه النظام البوليسي، برئاسة بن علي، من اختراق للأحزاب، وإعادة تشكيلها وفق توجهات السلطة الحاكمة في حينه، وهو أمر ظلت تأثيراته السلبية مستمرة إلى ما بعد الثورة ودخول زمن التعددية.
حداثة التجربة الديمقراطية في تونس، وعدم قدرة قيادات حزبية كثيرة على تمثلها إلى الحد الذي يجعل كيانات سياسية، تكتفي بأحجامها الضئيلة جماهيرياً، على أن تأتلف مع غيرها ممن يتقارب معها فكراً وتوجهاً.
معظم قيادات الأحزاب التونسية تنتمي إلى شريحة عمرية جاوزت الستين، ما منع الشباب من تولي مناصب قيادية، والتأثير على الخيارات المركزية للتنظيمات السياسية، ما دفعه إلى الانشقاق، والتشكل في مجموعات صغيرة.
الفوضى التنظيمية التي أصابت المشهد السياسي التونسي، بعد 14 يناير/كانون ثاني 2011، ولا يرجع ذلك إلى أن تعدد الفصائل والأحزاب السياسية يعبر عن خلافات جوهرية، أو أنه مبني على ضرورات موضوعية، وإنما على العكس تماماً، إذ يصعب على أي باحث أن يكتشف أي فروق جوهرية بين تلك الفصائل، تماماً كما يسهل على مرتادي المقاهي السياسية ومجالس النميمة إدراك أن الشخصانية والتعنت والرغبة في تصدر المشهد من جانب، وانسداد قنوات التعبير داخل الأحزاب التاريخية، فضلاً عن تمسك القيادات بمواقعها من جانب آخر، هما السببان الجوهريان لحالة التعدد الكاذب للقوى السياسية في تونس.
عزوف جيل الشباب عن الممارسة الحزبية، بل وحتى الانخراط في الشأن العام (مثل المشاركة في الانتخابات) منح القوى الأكثر تنظيماً من اكتساح المشهد الانتخابي، وأعطى الفرصة لقوى النظام القديم للعودة إلى السلطة.
دور المال السياسي في إفساد المشهد الحزبي في تونس بعد الثورة، حيث نجد حضوراً واضحاً للوبيات المالية ورجال الأعمال الفاسدين في التحكم في مكونات حزبية كثيرة، وهي تتحرك بدافع امتلاك مزيد من النفوذ، وتوجيه الرأي العام خدمة لمصالح خاصة.
تكمن أزمة الأحزاب السياسية التونسية بعد الثورة في أنها لم تصل بعد إلى درجة النضج، وفهم معنى الحزب السياسي في بنيته العميقة، باعتباره، وبالدرجة الأولى، مدرسة للتربية السياسية للمواطن، ينخرط فيها ليتدرب على مساهمته في الشأن العام، وعلى ممارسة حقوقه السياسية الأساسية، ولكن تحقيق هذه المهمة، في صورتها المثلى، ليس بالأمر اليسير في ظل حالة الاضطراب التنظيمي الذي تشهده غالبية الأحزاب، وحالات الانشقاق التي تعرفها، بالإضافة إلى ما تعرفه من ارتحال لناشطيها، بصورة تذكّرنا بانتقالات لاعبي كرة القدم، وما يزيد المشهد قتامة انبناء أحزاب كثيرة على منطق الزعيم الأوحد، ما يجعلها أشبه بالشتات الذي تجمعه المصلحة الآنية، أكثر مما هي تنظيم ذو بنية واضحة وأهداف محددة. فالحزب الحقيقي كتنظيم عقلاني للفعل السياسي، وإن كانت تتجاذبه، أحياناً كثيرة، جماعات الضغط والمصالح، فإنه يهفو دائماً إلى النموذج العقلاني الأمثل، وهذا قوامه السعي إلى تحويل الحزب إلى بنية جماعية متآلفة عضوياً، أي إلى عقل جماعي، يتناقش فيه جميع الأعضاء حول قضايا الشأن العام.
ويظل الأمل قائماً في إمكانية إعادة تشكل المشهد الحزبي التونسي، ومجاوزته مشكلاته تنظيمياً وأيديولوجياً، حتى يساهم بشكل أكبر في استقرار العملية السياسية، والتقدم صُعُداً في بناء العملية الديمقراطية في البلاد، وهذا أمر يفرضه الواقع الجديد، ومهمة عاجلة على عاتق الناشطين الحزبيين، لعمري، لا تقبل التأجيل.