العربيةُ إذ تتفـَرْنـَج
ليس ما يفاجئ في هذا الخبر المازح الذي يأتي ردّ فعلٍ على إقرار وزيرة التربية والتعليم، الفرنسية من أصول مغربية، نجاة فالو بلقاسم، اللغة العربية لغةً حية يمكن لتلامذة مدارس فرنسا من الآن فصاعداً، اختيارها ومنذ الصفوف الابتدائية، من ضمن لغات أخرى كالإنكليزية والإيطالية والألمانية، إلخ. فلطالما كانت النظرة الفرنسية إلى لغة الضاد نظريةً سلبيةً، ترى فيها أداة تفرقةٍ وتمييزٍ ذات ارتباطٍ وثيق بالدين، يؤدّي تعلّمُها إلى الإساءة إلى قيم الجمهورية، ويعوق الاندماج في المجتمع الفرنسي. وهذا ما بدا واضحاً في رفض المدارس الابتدائية الثابت، تعليمَ اللغة العربية، لأنه يتسبّب برأيها في رفض فرنسا، وما تقوم عليه من قيم.
بيد أن اللغة العربية، ومن ضمنها لغات أخرى، كانت تُعلَّم في إطار برنامج "تعليم اللغات والثقافات للجماعات بحسب أصولها"، وذلك منذ عام 1970، بموجب اتفاقياتٍ تعقد بين الدولة الفرنسية ودول أخرى (المغرب، الجزائر، تونس، تركيا، كرواتيا، صربيا، إسبانيا، إيطاليا والبرتغال)، تقوم بإرسال أساتذةٍ يتولون تدريس تلك اللغات، خارج الإطار المدرسي الفرنسي، بهدف الحفاظ على الروابط قائمةً وحيةً بين أبناء المهاجرين وثقافة بلدان أهاليهم.
اليوم، ألغى ذلك البرنامج، ليتم إدراجه في النظام المدرسيّ، على المستوى الوطني، وهذا لا ريب من أشكال الاعتراف الصريح بأهمية اللغة العربية كثاني أكثر لغةٍ محكيةٍ في فرنسا، وبوجود مشكلةٍ حقيقيةٍ اسمها الضواحي، حيث تمّ إقصاء السكّان، وترك الشبان لعناية المؤسسات ذات الصبغة الدينية والمذهبية التي تقوم بتعليم العربية خارج إطار المدرسة.
هذه ولا بد أشبه بـ"ثورة" على مستوى نظام التعليم الرسميّ في فرنسا، حيث سيكون في وسع طلاب المدارس اختيار العربية لغةً ثانيةً، وهذا، في حد ذاته، إنجاز سيعيد على المدى الطويل. وإذا ما توافق مع إجراءات انفتاح موازيةٍ ومماثلةٍ على مستويات أخرى، أبناءَ الضواحي والمهاجرين العرب إلى أحضان الجمهورية الفرنسية، وسيشعرهم بشيء من الفخر، ومن ردّ الاعتبار إليهم، وإلى أهاليهم وثقافاتهم وهوياتهم. أيضاً، ستكسب اللغة العربية هناك موقعاً متقدّماً لم تشغله حتى الآن، إذ أنها ستنزع عنها كل ما علق بها من أفكار سلبية ومغلوطة، ومن مواقف منغلقةٍ، رجعيةٍ وعدوانيةٍ، تجاه كلّ ما ليس هي.
كم سيكون جميلاً أن يكتشف طلابُ فرنسا، مثلاً، أن العربية تنتمي، مع الآرامية والعبرية، إلى العائلة نفسها، أن يتعلّموا عن تأثيراتها في لغاتٍ عديدةٍ، كالفارسية والتركية والإسبانية وسواها من لغات أوروبية. كم سيكون رائعاً ألا يبقى العالمُ العربي، في نظرهم، أحاديّ الهوى واللون والرائحة، فيرون أن فيه عدة إثنيات وأقليات وأعراق ممتزجة في ما بينها، أنه متعدد الأديان والمذاهب من الإسلام إلى المسيحية إلى اليهودية، وأن أهله يلهجون بلغات أخرى غير العربية، محلية وعالمية. كم سيكون ضروريا أن يتعرّفوا إلى تاريخه، حضاراته، تراثه الفكري والفني والأدبي، فليس سوى هذا وهذا وحده ما سيُبعد عن أذهانهم، وأذهان الفرنسيين، كلّ ما راكموه من جهلٍ وسوء معرفةٍ وكراهية.