العدل أساس العمران

03 ابريل 2014

القضاء في مصر مطالب بإقامة دولة العدالة

+ الخط -

النّاظر في سِيَرِ السّابقين والمعاصرين، يتبيّن أنّ تحكيم العدل بين النّاس أساس متين من أسس استمرار الدّولة، وازدهارها وانتظام أحوالها. فإحساس المواطن بأنّه ينتمي إلى مجتمع مدنيّ مؤسّسي، السّيادة العليا فيه للقانون، يجعله يشعر بالطّمأنينة، وينطلق نحو المساهمة في الشّأن العامّ، فيمارس حرّيته في التّعبير والتّفكير والانتماء، في غير خوف من سطوة الأجهزة الرّدعيّة للدّولة، باعتبار أنّ الوظيفة الأساسيّة لتلك الأجهزة تتمثّل في حفظ الأمن وضمان السّلامة، وتوفير المناخ المناسب، ليعبّر الإنسان عن وجوده، وليفعل في التّاريخ. فترى السّلطات الثلاث، أعني التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة في الدّولة المدنيّة، تمارس دورها في تحقيق العدل، في كنف درجة عالية من الاستقلاليّة والنّزاهة. ما يؤدّي، بالضّرورة، إلى انتشار حالة من الثّقة بين الحاكم والمحكوم، فينصرف كلّ مواطن إلى أداء واجبه، وممارسة حقّه في الإبداع والنّقد والاختلاف والمعارضة، مما ينتج مجتمعاً حيويّاً تعدّدياً ديناميكيّاً، لا يكفّ عن الحركة، وعن البناء في الوقت نفسه.
وتمارس المؤسّسة القضائيّة، هنا، دورها في إشاعة العدل، فلا تأتمر بأوامر جهة معيّنة، ولا ترتهن لقوّة ضغط محدّدة، بل تبقى وفيّة إلى روح النّصوص القانونيّة، والمرجعيّات الدّستوريّة، عند نظرها في النّزاعات المطروحة أمام المحاكم. من هنا، يكون القضاء المستقلّ من ركائز بناء الدّولة الرّشيدة، ذلك أنّ تحويل العدل من قيمة إنسانيّة نبيلة، مجرّدة، إلى ممارسة يوميّة، وواقع معيش، تحياه المجموعة الوطنيّة، على اختلاف مكوّناتها، يساهم، لا محالة، في تراجع الجريمة، وشيوع الرّقابة الذاتيّة، وإحساس المواطن بالمسؤوليّة، وإقباله على العمل، من أجل مستقبل أفضل للفرد والجماعة. وبذلك، فالقضاء النّزيه جسر عبور إلى الازدهار الحضاري، في تجلّياته المختلفة. وعلى هذا الأساس، ذهب ابن خلدون إلى أنّ العدل أساس العمران.
لكنّ النّكوص عن طلب العدل وتحكيمه مؤدّ إلى خراب العمران، لا محالة. فالمشهود في مصر، اليوم، مثلاً من محاكمات جماعيّة ارتجاليّة، تأخذ بالشّبهة، وتحاكم مئاتٍ على بطاقة هويّتهم السياسيّة، والأيديولوجيّة، مُخْبِر بأنّ العرب عموماً، والمصريّين خصوصاً، ما زالوا في منأى عن دولة العدالة، ومجتمع الحقّ والواجب. فالقضاء في أرض العرب ما زال سيفاً مسلولاً يسلّطه الحاكم على من يشاء من خصومه. وارتهان القاضي للسّلطان، في دولة الخوف، يؤدّي، بالضّرورة، إلى حالة من الفزع الذي يعتري عموم المواطنين، ويُنْذِر بخراب الدّولة.
والتّنكيل بمئات المساجين السياسيين، وتغييبهم خلف الشّمس، وإحالة ملفّاتهم على المفتي، بما يعني أنّهم مهدّدون بالإعدام في أيّ لحظة، يُنبئ بسقوط القضاء في مهواة الدّولة القامعة، واستعداده التّشريع لهيمنتها، وتكريس استبدادها بالشّأن العام، ومصادرتها الحرّيات الفرديّة والعامّة، وهو ما يهدّد السّلم الاجتماعي، ويجعل حياة المواطنين في خطر. فكلّ محاولة لنقد النّظام العسكري الحاكم، أو الخروج السّلمي عليه، تصبح فعلا إجراميّاً، وعملاً إرهابيّاً، لأنّ الدّولة الشموليّة لا تؤمن بالتعدديّة. وترى في الرّأي المخالف خطراً على كينونتها. لذلك، توظّف السّلطتان، التنفيذيّة والقضائيّة على السّواء، لترهيب المعارضين ومحاصرتهم، ومعاقبتهم، لأنّهم قالوا: لا... لا ... لحكم العسكر... فيكفي أن تعارض النّظام، لتصبح مهدّداً بالإعدام. وفي ذلك رجوع إلى الخلف، واستعادة لعصر الدّيكتاتوريّة المقيتة، وقطع مع ما يسمّى حركة الرّبيع العربي نحو مزيد من التّنوير والعدالة والدّمقرطة... والمعضلة، هنا، أنّ القضاء الموالي للسّلطان لا يحلّ النّزاع بين الأفراد والدّولة، أو بين الأحزاب المعارضة والزّمرة الحاكمة، بل يزيد من تأزيم الأمور، والدّفع نحو المجهول، فيغلّب الاحتقان على الانفراج والتّنافر على التّصالح، ويتفتّت المجتمع داخليّاً، في صراع بيني/ذاتي، قد يفتك بكلّ مكوّناته وبكلّ منجزاته.
ومعلوم أنّ استبدال الاستبداد بالاستبداد، والتولّي على النّاس بالغلبة، وتوظيف القضاء لإلغاء مطلب العدالة، مؤدّ إلى ردود فعل غير محسوبة من المظلوم، ومُنشئ حالة شكّ وانعدام يقين في العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فتشريد آلاف، وقطع أرزاقهم، وتحطيم مسارهم العلمي والمهني، وسدّ أبواب العمل والاندماج الاجتماعي في وجوههم، وتصفيتهم على أساس هويّتهم الدّينيّة، أو السياسيّة، ذلك كله يندرج في إطار سياسات الدّولة القامعة، ويتعارض، تماماً، مع مقتضيات الحوكمة الرّشيدة. بل إنّ ذلك كله من قبيل الظّلم المنهجي، المؤدّي إلى خراب العمران لا محالة. رحم الله ابن خلدون، كان أعظم من الطّغاة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.