11 نوفمبر 2024
الطبقات الوسطى العربية والتحوّلات الديمقراطية
قد يبدو أمر تخصيص ندوةٍ علميةٍ دوليةٍ نظمها فرع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، خلال نهاية الأسبوع الحالي، عن الطبقات الوسطى في البلدان العربية، تعسّفا على السياقات وانتقاء للأوليات. ومع ذلك، سيبدو الأمر مشروعا لأكثر من سبب، فقد انتهت دراساتٌ عديدة أنجزتها، في السنوات الأخيرة، عدة مؤسسات ومنظمات على غرار البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فضلا عن أكاديميين مرموقين بشأن ظاهرة الفقر والسكن العشوائي والبطالة إلى جملة من النتائج العلمية، لعل أهمها أن سياسات مكافحة الفقر والتهميش، بقطع النظر عن المناهج والأساليب والأوليات (الرفع من الدخل، التشغيل، توسيع دائرة النفاذ إلى خدماتٍ صحية وتربوية ومعاشية ذات جودة...) تقتضي، بالضرورة، توسيعا للطبقات الوسطى وتنشيط المصاعد الاجتماعية والمهنية التي ترفع هذه الشرائح، وتخرجها من تلك الفضاءات، لتلحقها إلى عالم الطبقات الوسطى تلك. أما النتيجة الثانية فهي هذا النزوع المتنامي إلى وسطنة الهيكلة الطبقات الاجتماعية للمجتمعات، ففي السنوات القليلة المقبلة (2030/2020)، ستكون لنا، حسب تقارير منظمة OCDE، التي أعدّها الاقتصادي المرموق Homis kharas (أصدر سنة 2015 أحدث كتبه "الميل الأخير في محاربة الفقر المدقع") طبقة وسطة عالمية/ معولمة، تقدر الإحصائيات، على الرغم من تشتتها
وتذبذبها وتباينها أحيانا، ستؤوي حوالي ملياري بشر، وقد يكون العدد أرفع بذلك، لتبلغ النسبة نصف سكان العالم. (من لهم دخل يومي واقع ما بين 10 و100 دولار يومي)، علما أن البنك الدولي يعتمد قاعدة 10 دولارات يوميا لبناء الهرم، وهي قاعدة تثير جدلا كثيرا.
وعلى خلاف أيديولوجيا النهايات، بما فيها نهاية الطبقات، والطبقة الوسطى بشكل خاص، أو تآكلها، واتساع دائرة الفقر، فإن العالم، ومنه العالم العربي بشكل خاص، يتجه، حسب دراساتٍ رصينة عديدة، إلى اتساع هذه الطبقات في مقابل انحسار دوائر الفقر. قد يكون هذا تفاؤلا ليبيراليا، ولكن سيشكل لنا ضربا من الإثارة الذهنية والفكرية لملازمة الحذر العلمي في موضوعٍ معقدٍ مثل هذا.
وبقطع النظر عن دقة هذه التوقعات، لن تكون هذه الطبقات الوسطى في ذلك كله، مجرد سوق واسعة للاستهلاك والإقبال على مختلف المواد والبضائع (نمذجة وتنميط أنماط الاستهلاك: علامات موحدة في الثياب والأكل وتقنيات التواصل...)، بل ستكون أيضا فضاءً ملائما لترويج قيم الحرية واعتناقها، فالأصل في هذه الطبقات أن تكون متطلعةً لقيم الديمقراطية والحرية، حيث تفيد دراساتٌ عديدة أن نجاح الانتقال الديمقراطي في حالاتٍ كثيرة (أوروبا الشرقية، آسيا، أميركا اللاتينية، وحتى أفريقيا، استند إلى حاضنة هذه الطبقات بالذات، بشكل حاسم، كما أن البنك الدولي في دراساته العددية، وعلى أربعة عقود، قد انتهى إلى أن قيم المشاركة السياسية وإنتاج النخب المعنية بالشأن العام، وترسيخ مبادئ احترام الحقوق المدنية ومكافحة الفساد، تنهض على تطلعات هذه الطبقات أيضا وما يحدث فيها. قد يكون الرهان على هذه الطبقات قد فشل، في العقود القليلة الماضية، في بعض الدول العربية، وفي تونس تحديدا، لسبيين رئيسيين: تصور يختزلها في خزّان لضخ المشروعية السياسية، من دون إشباع تطلعاتها نحو الديمقراطية والحرية ومضايقتها وخنقها من طبقاتٍ هجينة، تعيشت من التهريب والفساد، وذلك ما أفقد النظام السياسي حزاما مهما، وهو الذي سمّنها، منذ بداية التسعينيات، تحت وصفةٍ ما زالت حاضرة بيننا.
بقطع النظر عن المعايير المختلفة لتعريف الطبقات الوسطى، وإن كانت واحدة أو متعدّدة، أو إلى الموقع الاجتماعي والمهني للأفراد والمجموعات القائم على المكانة والنفوذ أو مشاعر
الانتماء والتمثلات والهوية، فان كل تلك المداخل ليست، في النهاية، سوى أبوابٍ، نلج منها إلى تصنيفاتٍ ذهنية متداخلة، وإن قامت على وقائع وأحداث وسلوكات تعاش يوميا، وبكثير من الكثافة المادية والرمزية. ممارسات اجتماعية كثيرة: اختيار نمط المسكن والحي السكني، الممارسات العلاجية والصحية، واختيار المدرسة ونوعية تعليم أبنائنا، واستخدام وسيلة النقل اليومي.. إلخ، توزعنا إلى طبقات انتمائنا الاجتماعية، وتذكّرنا بها بشكل يكاد يكون يوميا. يتم ذلك كثير من التشريط الاجتماعي والاقتصادي الذي من فرط لاوعيه يجعل تلك التوزيعات مقبولة، ويسبغ عليها الكثير من البداهة الاجتماعية. وتبدو المسألة هندسة اجتماعية، تكون الطبقات فيها إنتاجا اجتماعيا، تتولى أمر إدارته "فيريكات" طبقية، أي تلك المعامل الصغرى التي تنتجها مختلف السياسات العمومية وخيراتها الاقتصادية والاجتماعية، بدءا من المؤشرات، وصولا إلى الاستهلاك، من دون إغفال تأثيرها في رسم ملامح الوافدين الجدد إليها.
غير أنه علينا أن نستحضر أن الطبقات الاجتماعية ليست كتلا بشرية، ولا مفردات إحصائية، بل هي جماعات ثقافية وسلوكية. لذلك، سننتبه إلى مساءلة هذه السلوكات والممارسات، خصوصا فيما يتعلق بذائقتها وذوقها ومواقفها وتوجهاتها (الانتخابية.. إلخ) أنها جماعات تتحرّك في فضاء دينامي، تواجه فيه خصوما ومنافسين (أعداء أحيانا بالمفهوم الماركسي) حيث يكون مدار كل ذلك الاستحواذ على النفود والسلطة ومقادير مختلفة من الهيمنة المادية والرمزية. لذلك، علينا أن ننتبه إلى أن للطبقات الوسطى هذه جملة من العلاقات المعقدة والمركبة التي تربطها ببقية الطبقات الأخرى، ما فوقها أو تحتها وما يجاورها أفقيا أيضا من فاعلين اجتماعيين آخرين: أحزاب ومنظمات فئات وشرائح وتشكيلات ورهانات تغريها أو تنفرها، وهي علاقات تترجم عادة من خلال مواقف ومبادرات.
ربما أهم ما توصلت إليه ندوة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ثلاث نتائج: الطبقة الوسطى متعدّدة، وهي وعاء يتسع لعدة شرائح وفئات غير متجانسة، وغير موحدة وعيا وممارسة. استندت جل الطبقات الوسطى في البلدان، في نشأتها، إلى حد كبير، إلى أجهزة الدولة (الريع والرهان السياسي عليها) لضمان الشرعية والاستقرار. إن مشاركة الطبقة الوسطى ستكون حاسمة في أي انتقال اجتماعي وسياسي مقبل، وهذا ما أكدته النسخ الأخيرة للمسح العالمي للقيم.
وعلى خلاف أيديولوجيا النهايات، بما فيها نهاية الطبقات، والطبقة الوسطى بشكل خاص، أو تآكلها، واتساع دائرة الفقر، فإن العالم، ومنه العالم العربي بشكل خاص، يتجه، حسب دراساتٍ رصينة عديدة، إلى اتساع هذه الطبقات في مقابل انحسار دوائر الفقر. قد يكون هذا تفاؤلا ليبيراليا، ولكن سيشكل لنا ضربا من الإثارة الذهنية والفكرية لملازمة الحذر العلمي في موضوعٍ معقدٍ مثل هذا.
وبقطع النظر عن دقة هذه التوقعات، لن تكون هذه الطبقات الوسطى في ذلك كله، مجرد سوق واسعة للاستهلاك والإقبال على مختلف المواد والبضائع (نمذجة وتنميط أنماط الاستهلاك: علامات موحدة في الثياب والأكل وتقنيات التواصل...)، بل ستكون أيضا فضاءً ملائما لترويج قيم الحرية واعتناقها، فالأصل في هذه الطبقات أن تكون متطلعةً لقيم الديمقراطية والحرية، حيث تفيد دراساتٌ عديدة أن نجاح الانتقال الديمقراطي في حالاتٍ كثيرة (أوروبا الشرقية، آسيا، أميركا اللاتينية، وحتى أفريقيا، استند إلى حاضنة هذه الطبقات بالذات، بشكل حاسم، كما أن البنك الدولي في دراساته العددية، وعلى أربعة عقود، قد انتهى إلى أن قيم المشاركة السياسية وإنتاج النخب المعنية بالشأن العام، وترسيخ مبادئ احترام الحقوق المدنية ومكافحة الفساد، تنهض على تطلعات هذه الطبقات أيضا وما يحدث فيها. قد يكون الرهان على هذه الطبقات قد فشل، في العقود القليلة الماضية، في بعض الدول العربية، وفي تونس تحديدا، لسبيين رئيسيين: تصور يختزلها في خزّان لضخ المشروعية السياسية، من دون إشباع تطلعاتها نحو الديمقراطية والحرية ومضايقتها وخنقها من طبقاتٍ هجينة، تعيشت من التهريب والفساد، وذلك ما أفقد النظام السياسي حزاما مهما، وهو الذي سمّنها، منذ بداية التسعينيات، تحت وصفةٍ ما زالت حاضرة بيننا.
بقطع النظر عن المعايير المختلفة لتعريف الطبقات الوسطى، وإن كانت واحدة أو متعدّدة، أو إلى الموقع الاجتماعي والمهني للأفراد والمجموعات القائم على المكانة والنفوذ أو مشاعر
غير أنه علينا أن نستحضر أن الطبقات الاجتماعية ليست كتلا بشرية، ولا مفردات إحصائية، بل هي جماعات ثقافية وسلوكية. لذلك، سننتبه إلى مساءلة هذه السلوكات والممارسات، خصوصا فيما يتعلق بذائقتها وذوقها ومواقفها وتوجهاتها (الانتخابية.. إلخ) أنها جماعات تتحرّك في فضاء دينامي، تواجه فيه خصوما ومنافسين (أعداء أحيانا بالمفهوم الماركسي) حيث يكون مدار كل ذلك الاستحواذ على النفود والسلطة ومقادير مختلفة من الهيمنة المادية والرمزية. لذلك، علينا أن ننتبه إلى أن للطبقات الوسطى هذه جملة من العلاقات المعقدة والمركبة التي تربطها ببقية الطبقات الأخرى، ما فوقها أو تحتها وما يجاورها أفقيا أيضا من فاعلين اجتماعيين آخرين: أحزاب ومنظمات فئات وشرائح وتشكيلات ورهانات تغريها أو تنفرها، وهي علاقات تترجم عادة من خلال مواقف ومبادرات.
ربما أهم ما توصلت إليه ندوة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ثلاث نتائج: الطبقة الوسطى متعدّدة، وهي وعاء يتسع لعدة شرائح وفئات غير متجانسة، وغير موحدة وعيا وممارسة. استندت جل الطبقات الوسطى في البلدان، في نشأتها، إلى حد كبير، إلى أجهزة الدولة (الريع والرهان السياسي عليها) لضمان الشرعية والاستقرار. إن مشاركة الطبقة الوسطى ستكون حاسمة في أي انتقال اجتماعي وسياسي مقبل، وهذا ما أكدته النسخ الأخيرة للمسح العالمي للقيم.