هذا المشهد تكرر منذ بداية العام الحالي ثلاث مرات في خربة طانا شرق بلدة بيت فوريك جنوب شرق مدينة نابلس، إلى الشمال من الضفة الغربية المحتلة، حيث يداهمها باستمرار جيش الاحتلال الإسرائيلي برفقة ما يسمى بـ"الارتباط العسكري والمدني الإسرائيلي" مع جرافات عسكرية، ويبدأون بعملية الهدم في الخربة المحاصرة من مستوطنتين إسرائيليتين تمتدان بشكل مستمر على حساب أراضي الفلسطينيين في تلك المنطقة.
اقرأ أيضاً قصة يوم الأرض: التأسيس الجديد للوطنية الفلسطينية
قرب حظيرة صغيرة تخلو من الأغنام، ينشغل واصف أبو السعود (61 عاماً) في عمله، حيث يجهّز طعام العشاء للمواشي التي خرجت للرعي في محيط الخربة، فيما تساعده زوجته في توزيع الطعام على أقسام متفرقة بعدما هدم الاحتلال حظيرة الأغنام التي كانت تحوي على "مأكل" حديدي دمرته جرافات الاحتلال. اعتاد أبو السعود أن يقضي يومه منذ الصباح بتجهيز وترتيب أمور خيمته التي يسكنها، وإعداد الجبن، وتصفية الحليب، وتجهيز الطعام للأغنام، بعد خروج ابن عمه مع قطيع الأغنام إلى حقول الرعي. لكن هذا الأمر تغير بعد عمليات الهدم المتكررة. وبعدما هدمت جرافات الاحتلال خيمته ومنشأته مرتين، صار أبو السعود، إضافة إلى عمله اليومي، يعمل على إعادة ترتيب شكل بيته، وإزالة الدمار والحجارة التي خلفتها قوات الاحتلال.
وعلى غرار عائلة أبو السعود، فإنّ جميع أهالي خربة طانا هم من بلدة بيت فوريك، لكن ما جعلهم يعيشون داخل الخربة ويتمسكون بها على الرغم من محاولات الاحتلال الكثيرة لتهجيرهم، أنهم يعتمدون بشكل أساسي في حياتهم على الثروة الحيوانية وتربية المواشي، ولا يمكن لهم أن يظلوا داخل البلدة المكتظة بالمنازل والسكان. فمنذ عشرات السنين، يعيش المزارعون في هذه الخربة الغنية بالأعشاب والتي تتوفر فيها المياه بشكل دائم. وتعيش في خربة طانا، 35 عائلة أي أكثر من 300 فلسطيني، تحاول سلطات الاحتلال جاهدة أن تبعدهم عن أرضهم ومصدر رزقهم، دون أن تتمكن من تحقيق ذلك.
يقول أبو السعود لـ"العربي الجديد" "نحن هنا نعيش منذ كنا صغاراً، ومنذ تفتحت عيوننا وجدنا آباءنا وأجدادنا يعيشون في هذه البقعة، وتربينا بين هذه الحقول ولنا ذكريات في كل مكان فيها". ويضيف: "هذا الاحتلال البغيض يحاول أن يطردنا ليستولي على خيرات هذه الأرض التي هي من حقنا، وكل عائلة تعيش في أرضها وهو موثق ومتفق عليه بين أهالي القرية، كل له حدود، ومن لا يملك أرضاً يستأجر من أحد الملاكين، وكل ذلك مثبت ولا أحد يستطيع أن يأخذ أرضناً منا". ويرفض أبو السعود فكرة التخلي عن الأرض بقوله: "لو يقتلونا... ستخرج لهم أرواحنا وتلاحقهم"، مستذكراً أحد الأيام التي ظل فيها هو وزوجته دون خيمة تحميهم من البرد، أمام موقدة نار صغيرة. علماً أن أبو السعود يمتلك بيتاً يعيش فيه أولاده في بلدة بيت فوريك، لكنه لا يفكر أبداً في ترك قطيع أغنامه المهدد بالسرقة والقتل من قبل المستوطنين في مستوطنتي مخورا وجدعونيم المقامتين على أراضي أهالي البلدة.
يحفظ أبو السعود عن ظهر قلب تواريخ الأيام التي داهم فيها الاحتلال خربة طانا، حيث هدم منشآت الأهالي وحاول طردهم على مر السنين الطويلة التي عاشها. وقد تعرضت الخربة للهدم أكثر من مرة في الأعوام الماضية كما يقول. كما يستهدف الاحتلال الأغنام، إما بسرقتها أو بإطلاق النار عليها لقتلها.
وفي محاولة للحد من المضايقات التي يتعرضون لها، قدّم الأهالي أكثر من مرة للمحكمة العليا الإسرائيلية لاستصدار تصاريح تسمح لهم بالبناء والعيش دون مضايقة قوات الاحتلال، إلا أن المحاكم تماطل كثيراً. وقبل صدور أي أحكام، تهدم الجرافات وتعيث فساداً في الأرض، كما يقول أبو السعود. ويشير إلى مثل شعبي ينطبق تماماً على محاكم الاحتلال "إذا كان عدوك القاضي لمين تشكي" في دلالة على أن سلطات الاحتلال وقضاءها والحكومة الإسرائيلية كلهم يحبكون خطة مجهزة لطرد الفلسطينيين من أرضهم في خربة طانا وأماكن أخرى.
وتتعدد الأهداف والمطامع التي تدفع الاحتلال إلى محاولة طرد أهالي الخربة باستمرار. وفضلاً عن التوسع الاستيطاني، فإن الخربة تعتبر منطقة أثرية، فيها كهوف ومغاور تعود لمئات السنين، وتعيش في بعض الكهوف عائلات فلسطينية، وبعضها يتم وضع المواشي داخلها، وقد ردمتها قوات الاحتلال على مدار المرات الثلاث في هذا العام. يضاف إلى ذلك، يوجد مسجد قديم، إلى جانب وجود نبعي ماء وافرين على طول العام، أحدهما دمرته جرافات الاحتلال آخر مرة داهمت القوات الخربة. كما يوجد قرابة 25 بئر مياه قديمة تعود لزمن الرومان، حيث تم ترميم هذه الآبار ويستخدمها الأهالي لإيصال المياه من نبعي العين.
إجراءات الاحتلال لم تقتصر على هدم المساكن أو عمليات التدمير المنظمة لكل ما يساعد الأهالي على الصمود. ففي الثاني من شهر مارس/آذار الحالي، دهمت قوات الاحتلال الخربة، وهدمت 12 مسكناً للأهالي بالإضافة إلى المدرسة الوحيدة التي أنشئت منذ أربع سنوات كمدرسة صغيرة تابعة لوزارة التربية والتعليم العالي، للتخفيف عن أهالي الخربة عناء الطريق الطويلة لإرسال إطفالهم إلى مدرسة بلدة بيت فوريك التي تبعد نحو 7 كيلومترات عن خربة طانا. يلخص الطفل جهاد حنني، وهو طالب في مدرسة الخربة، بلهجته العامية تأثير ذلك على الأطفال بقوله لـ"العربي الجديد" "زعلنا كثير لما حكالنا أبوي أن المدرسة انهدمت، لأننا كل يوم الصبح نذهب إلى المدرسة ونتعلم فيها". لكن العملية التعليمية لم تتوقف بعد هدم المدرسة، إذ لا يزال الطلبة يذهبون لأخذ حصصهم المدرسية التي تقام في مسجد القرية القديم، إلى حين ترميم المدرسة التي هدمت.
اقرأ أيضاً: أما آن الوقت لإصدار "ميثاق الأرض الفلسطيني"؟