الشجن الفلسطيني

25 نوفمبر 2014

على ربوة في بلدة فلسطينية

+ الخط -

يستفيق فيّ الشجنُ الفلسطينيّ ذات مرّاتٍ، يستفيق هكذا، من دون سابق إنذار، من غير سبب ظاهر، أو حدثٍ مسبّب. كلحظة اكتئاب فاترةٍ، تفاجئك في منتصف يومك، فلا هي باردة، ولا هي حارّة. ومع ذلك، لها كل المدى والحضور، كمذاق متأخّر لشيء لم تهضمه بعد، كمذاق لا يبرح لقطعة خسارة، لمذلّـة، لشعورٍ بالظلم أو بالإجحاف.
أقف فجأة، في منتصف الوقت أو الجملة أو الفعل، وأكاد لا أستوعب كيف أن أحداً يُسلب شيئاً يخصّه، ثم لا يختفي ما سُلب منه، بل يبقى ماثلاً أمام عينيه، يراه ولا يحق له المطالبة به، بما امتلكه وما زال يمتلكه، وإن امتنع عنه. لا يحق له لمسه، ولا يجوز له حتى القول، إنه ذات يوم كان له، لا يُسمح له بتذكّره بصمت، بالبكاء عليه، بل إنه حتى يعاقـَب، على الرغم من تخلّيه وانكفائه وإعلانه خسارته، على مجرّد الحلم به.
ما مات يموت، ما اندثر يندثر، أجل. ولكن، ما العمل بما يقال لك إنه لم يعد، في حين أنه يبقى ماثلاً هنا، كل ثانية، كل عمر؟
وحتى حين لا أعود أحتمل الفلسطينيَّ وشجنَـه، حين يغمرني ذاك الشعور بالعجز الذي يجعلني أتنصّل وأتخلّى عن المريض والجائع والمسحوق، وعن كل ما يقلق توازني المفقود أصلاً، ثمة ما لا يستطيع الكرهُ والتنصّلُ منه. إذ كيف جرى ما جرى، وكيف يمكن ابتلاعه وتناسيه، تجاوزه والمضيّ من بعده، وكأن شيئاً لم يكن.
هذا ليس كلاماً في السياسة. هذا كلامٌ ما قبلها، فوقها، ما بعدها، تحتها. إنه الحدث حين ينفصل عن ظرفه، متحوّلاً إلى أقصوصةٍ يتناقلها الناس لأنها فوق الاحتمال. كما حين طلب الربّ من إبراهيم ذبح ابنه، فقال لإسماعيل، "يا بني، إني أرى في المنام أني أذبحك، فانظر ماذا ترى"، فأجابه إسماعيل "يا أبت، افعل ما تؤمر، ستجدني، إن شاء الله، من الصابرين". كما حين أنزل الربّ بأيوب ما يفوق وسع أيّ إنسان على الأرض احتماله، لأن جيراناً لأيوب قالوا إنه إنما مؤمن، لكلّ النعم التي يغدقها الرب عليه. وكما حين لا تني تسأل: ما العبرة، ولمَ أنا، وما الذي ينبغي لي فهمه ممّا يفوق قدرتي على استخلاص معناه.
"يا رب، كل هذا الليل لي"؟
والليل هذا كأنه لا يبرح، بل هو لا يبرح. ولست أفهم لمَ أنزلته عليّ دون سواي، يا ربّ، ولا أفهم لمَ جعلتَ من نزل عليهم الليلُ من قبلي، يعاقبونني أنا، ويقتصّون مني، فجعلتهم لا يتعلّمون الدرسَ الذي تدعونني، اليوم، جميعاً إلى تعلّمه. 
ما زلت، إلى اليوم، أبكي الأرضَ التي تخلّى عنها أبي لجيرانه برضاه، رضاه الذي أجبروه عليه، إذ راحوا يقضمونها شيئاً فشيئاً، حتى رضخ أبي، حكمةً لا جبناً، وتفاديّاً لإراقة الدماء. ما زلت، بعد مضيّ عقود، أنظر إلى من شغلها من بعدنا، على أنه اللص السارق الذي طردنا من الأرض التي بعناها له. لا سبيل، هنا، إلى المقارنة، إنما هو ذاك الإحساس المتجذّر فيك، ببقاء ما امتلكتـَه يوماً، وما كان لك، وإن ضاع، لك. يقال إن العضو الذي يُبتر يبقى يعيش فيك، فكيف لو أنه بُتر ليُزرع في جسم من اقتطعه منك، وعاش ملاصقاً لك؟
إنه الشجن الفلسطيني، يتسرّب على غفلةٍ منك. وكالماء، تجد نفسَك مبلّلاً ومتورّطاً به. يهبط عليك كالمساء، غلالته تشفّ وتنسيك أنك في المسافة، على الرغم من القرب، في المنع على الرغم من المتاح، "في حضرة الغياب" الذي لا يغيب.
ومن جديد، "يا ربّ كل هذا الليل لي"؟


 

دلالات
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"