04 ديسمبر 2022
السكك الحديدية وفقراء المصريين
محمد ثابت
ليس من مصري اليوم إلا وله ذكريات مريرة مما لاقاه أو شاهده من سكك مصر الحديدية؛ بل الهيئة المُنظمة لها أيضًا، أي الفقراء والبسطاء والذين يتعلقون بصعوبة بـ"حبال الصبر والستر" بعد تلاشي الطبقة الوسطى أو شبه انعدامها. وفي ظل حكم العسكريين وأذنابهم من منافقي المدنيين، تتحول كل نعمة في طول الكنانة وعرضها إلى نقمة؛ وخطوط السكك الحديدية المصرية الثانية في العالم بعد إنكلترا من أهم تلك النعم التي تحولت لنقم ومصائب دائمة في مصر.
أشرف على خطوط مصر الحديدية روبرت جورج ستيفنسون؛ نجل منشئها في بريطانيا، بعد مد خط (ليفربول/ مانشستر) في 1830، ليبدأ تشغيلها في الكنانة عام 1954 بخط القاهرة ـ كفر الزيات الذي اكتمل للإسكندرية بعدها بعامين. ومع متاهة البيرقراطية المصرية؛ وصلابة إصرار حكام عسكريين لا يعترفون بحق المصريين في الحياة؛ تحولت السكك الحديدية في حوادث "السيمافور" أو الحواجز الحديدية التي لا تغلق عند مرور القطارات، أو عدم إصدار صوت تحذيري قوي للمارة لفشل المنظومة الإدارية؛ وغياب المسؤولية السياسية عن خطوط بطول 9560 كيلومترا؛ و1330 مزلقانًا؛ و3500 عربة ركاب، و10 آلاف قطار بضائع؛ فتتضارب القطارات أو تترنّح في
ظل الفوضى؛ أو تسقط الركاب أو تلتهمهم... وهلم جرًا.
وبعد تاريخ طويل من معاناة المصريين مع كل فقرة ومفصلة من مفصلات الهيئة، وموت 21 ألف مصري في حوادث القطارات فحسب خلال السنوات العشر الماضية؛ مع أضعاف أضعاف الأرقام من المُصابين؛ مع خسائر مادية تتصاعد بوتيرة إعجازية؛ حتى صارت حوادث السكك الحديدية مثل الطقس في مصر، دافئاً ممطراً شتاءً وحارا جافا صيفًا مع استمرار حوادث القطارات طوال العام. وبعد التاريخ "الكارثي" المستمر مع هذه الحوادث، وصلت مصر إلى الحادث الأكثر كارثية في مجرّد تصوّره، لا لعدد الضحايا؛ ونحو 25 قتيلًا ليس بالعدد القليل، بالإضافة لأربعين مصابًا؛ لكن انعدام فرص حدوث الحادث المُفترضة من الأساس تزيد من كارثيته؛ فهو لم يحدث في محطة هامشية من أكثر من 700 محطة في طول البلاد وعرضها، ولا في سيمافور مجهول في عزبة نائية؛ أو مع سيدة عجوز لم تسمع صوت التنبيه في نجع موغل البعد من الجنوب؛ بل الحادثة الكبيرة، في يوم 27 فبراير/ شباط الماضي، وقعت في قلب المحطة الرئيسية للسكك الحديدية المصرية (محطة مصر) التي تنطلق منها وإليها قطارات مركزية كثيرة؛ في قرابة 920 رحلة في اليوم الواحد تنقل نحو 1.4 مليون راكب على مدار الأربع والعشرين ساعة، مُشكلة قرابة خمسمائة مليون راكب سنويًا، تتحكّم هذه المحطة فيها.
حدثت واقعة الأربعاء المصري الدامي لمسير قاطرة مركزية (جرار) بلا سائق، باصطدامها بأخرى ثم انفجارها. سيناريو يعجز الخيال عن تصوره، وينتحر العقل عند أعتابه، ولا يحدث إلا في دولنا العربية منزوعة العدالة... المزروعة بالظلم والطغيان؛ ولو أن أغلب حكام الوطن العربي من الجبابرة يعرفون شيئًا ولو يسيرًا نادرًا عن الأخلاق وحقوق الآدميين لما سمحوا لأنفسهم أن ينفقوا الملايين، بل مئات المليارات من الدولارات، في الأوهام والخيالات، وتركوا الإنسان المواطن، الأصل والأساس في البلاد مُعذبًا مشردًا، وما بناه وأداره وهندسه المُحتل بنجاح لا يستطيع الحكام من أبناء البلد إدارة جزء منه.
السكك الحديدية المصرية بكاملها صارت مفقودة اليوم؛ فقد كانت تمتد إلى غزة منذ عام
1918 ، وإلى وادي حلفا السوداني عام 1922، فضلًا عن قطارات ضواحي القاهرة سواء حلوان، أو مناطق أخرى كمصر الجديدة وغيرها، وهي الخطوط التي عملت خلال الربع الأول من القرن العشرين، ثم قطارات الأقاليم والمحافظات الداخلية... وكلها صارت الآن في حكم العدم أو الشلل، بل باعت الحكومة القضبان التي كانت تسير عليها هذه القطارات في القاهرة، في إشارة إلى عدم الحاجة إليها مرة أخرى.
انعدمت السكك الحديدية المصرية بانعدام الترام الداخلي في القاهرة الكبرى أو الخارجي في الأقاليم، والذي كان ممتدًا حتى حدود السودان وغزة؛ ولم تعد موجودة، تخففت منها البيرقراطية المصرية، ولم تعد قادرة على إدارة المنظومة حتى بعد افتقاد أطرافها. وشهد الأربعاء الدامي ذلك الحادث، وآخر جرى في مرسى مطروح، وأسفر عن قتل مصري وإصابة آخرين؛ ولعل في حدوثه في يوم كارثة المحطة الرئيسية تذكيرا للمصريين بعادي الحوادث، ما داموا سيشهدون في اليوم نفسه حادثة أخرى غير عادية أو منطقية.
ويبقى أنه في ظل غياب منظومة العدالة في مجمل بلادنا العربية، ستقع المسؤولية الجنائية كالعادة على البسطاء، من السائق أو مديري التشغيل، أو من يعلوهما بقليل، مع استقالة الوزير، لتبقى المنظومة الميكانيكية والإدارية فاشلة، تنتظر حادثًا بعد آخر، مثلما ينتظر عاديو المصريين الموت في كل زاوية، ما حكمهم العسكريون فأحالوا ليلهم نهارًا؛ وحولوا نعمًا أتى لهم بها الاحتلال إلى نقم ومأساة، جعلت الكنانة واحدة من أسوأ عشر دول في حوادث القطارات في العالم، بعد أن كانت الثانية عالميًا بعد بلد المنشأ، والأولى في أفريقيا والشرق الأوسط.
أشرف على خطوط مصر الحديدية روبرت جورج ستيفنسون؛ نجل منشئها في بريطانيا، بعد مد خط (ليفربول/ مانشستر) في 1830، ليبدأ تشغيلها في الكنانة عام 1954 بخط القاهرة ـ كفر الزيات الذي اكتمل للإسكندرية بعدها بعامين. ومع متاهة البيرقراطية المصرية؛ وصلابة إصرار حكام عسكريين لا يعترفون بحق المصريين في الحياة؛ تحولت السكك الحديدية في حوادث "السيمافور" أو الحواجز الحديدية التي لا تغلق عند مرور القطارات، أو عدم إصدار صوت تحذيري قوي للمارة لفشل المنظومة الإدارية؛ وغياب المسؤولية السياسية عن خطوط بطول 9560 كيلومترا؛ و1330 مزلقانًا؛ و3500 عربة ركاب، و10 آلاف قطار بضائع؛ فتتضارب القطارات أو تترنّح في
وبعد تاريخ طويل من معاناة المصريين مع كل فقرة ومفصلة من مفصلات الهيئة، وموت 21 ألف مصري في حوادث القطارات فحسب خلال السنوات العشر الماضية؛ مع أضعاف أضعاف الأرقام من المُصابين؛ مع خسائر مادية تتصاعد بوتيرة إعجازية؛ حتى صارت حوادث السكك الحديدية مثل الطقس في مصر، دافئاً ممطراً شتاءً وحارا جافا صيفًا مع استمرار حوادث القطارات طوال العام. وبعد التاريخ "الكارثي" المستمر مع هذه الحوادث، وصلت مصر إلى الحادث الأكثر كارثية في مجرّد تصوّره، لا لعدد الضحايا؛ ونحو 25 قتيلًا ليس بالعدد القليل، بالإضافة لأربعين مصابًا؛ لكن انعدام فرص حدوث الحادث المُفترضة من الأساس تزيد من كارثيته؛ فهو لم يحدث في محطة هامشية من أكثر من 700 محطة في طول البلاد وعرضها، ولا في سيمافور مجهول في عزبة نائية؛ أو مع سيدة عجوز لم تسمع صوت التنبيه في نجع موغل البعد من الجنوب؛ بل الحادثة الكبيرة، في يوم 27 فبراير/ شباط الماضي، وقعت في قلب المحطة الرئيسية للسكك الحديدية المصرية (محطة مصر) التي تنطلق منها وإليها قطارات مركزية كثيرة؛ في قرابة 920 رحلة في اليوم الواحد تنقل نحو 1.4 مليون راكب على مدار الأربع والعشرين ساعة، مُشكلة قرابة خمسمائة مليون راكب سنويًا، تتحكّم هذه المحطة فيها.
حدثت واقعة الأربعاء المصري الدامي لمسير قاطرة مركزية (جرار) بلا سائق، باصطدامها بأخرى ثم انفجارها. سيناريو يعجز الخيال عن تصوره، وينتحر العقل عند أعتابه، ولا يحدث إلا في دولنا العربية منزوعة العدالة... المزروعة بالظلم والطغيان؛ ولو أن أغلب حكام الوطن العربي من الجبابرة يعرفون شيئًا ولو يسيرًا نادرًا عن الأخلاق وحقوق الآدميين لما سمحوا لأنفسهم أن ينفقوا الملايين، بل مئات المليارات من الدولارات، في الأوهام والخيالات، وتركوا الإنسان المواطن، الأصل والأساس في البلاد مُعذبًا مشردًا، وما بناه وأداره وهندسه المُحتل بنجاح لا يستطيع الحكام من أبناء البلد إدارة جزء منه.
السكك الحديدية المصرية بكاملها صارت مفقودة اليوم؛ فقد كانت تمتد إلى غزة منذ عام
انعدمت السكك الحديدية المصرية بانعدام الترام الداخلي في القاهرة الكبرى أو الخارجي في الأقاليم، والذي كان ممتدًا حتى حدود السودان وغزة؛ ولم تعد موجودة، تخففت منها البيرقراطية المصرية، ولم تعد قادرة على إدارة المنظومة حتى بعد افتقاد أطرافها. وشهد الأربعاء الدامي ذلك الحادث، وآخر جرى في مرسى مطروح، وأسفر عن قتل مصري وإصابة آخرين؛ ولعل في حدوثه في يوم كارثة المحطة الرئيسية تذكيرا للمصريين بعادي الحوادث، ما داموا سيشهدون في اليوم نفسه حادثة أخرى غير عادية أو منطقية.
ويبقى أنه في ظل غياب منظومة العدالة في مجمل بلادنا العربية، ستقع المسؤولية الجنائية كالعادة على البسطاء، من السائق أو مديري التشغيل، أو من يعلوهما بقليل، مع استقالة الوزير، لتبقى المنظومة الميكانيكية والإدارية فاشلة، تنتظر حادثًا بعد آخر، مثلما ينتظر عاديو المصريين الموت في كل زاوية، ما حكمهم العسكريون فأحالوا ليلهم نهارًا؛ وحولوا نعمًا أتى لهم بها الاحتلال إلى نقم ومأساة، جعلت الكنانة واحدة من أسوأ عشر دول في حوادث القطارات في العالم، بعد أن كانت الثانية عالميًا بعد بلد المنشأ، والأولى في أفريقيا والشرق الأوسط.
مقالات أخرى
31 أكتوبر 2022
09 سبتمبر 2022
10 يوليو 2022