السعودية وإعادة تدوير النفايات

22 يناير 2018
+ الخط -
نشر، في بدايات العام الحالي، حساب على "تويتر"، منسوب لسيف الإسلام القذافي، نجل الرئيس الليبي الراحل، تغريدةً يدافع فيها عن السعودية، ويهاجم قطر ويتهمها بـ"الفجور في الخصومة". وعلى الرغم من أن هذا الحساب لم يكن يحصل على أي تفاعل يذكر، إلا ان هذه التغريدة حصلت على عشرات آلاف الإعجابات والمشاركات من حسابات سعودية احتفت بشدة بهذه التغريدة دون سواها، حتى إن التغريدات السابقة واللاحقة لها لم تحصل على ربع هذا التفاعل، وإن كانت التغريدات اللاحقة قد شهدت قفزاتٍ كبيرة عن التفاعل المعتاد مع الحساب، نظرا لتوافد آلاف الحسابات السعودية وتهافتها على ترويج التغريدات التي استمرت في الدفاع عن السعودية، والهجوم على قطر وتركيا. وهو ما دفع محامي سيف الإسلام إلى إعلان تبرؤ موكله من هذا الحساب، مؤكدا أنه مزوّر.
المهم في التغريدة المزعومة، وردود الفعل عليها، أنها تكشف إلى أي حد وصلت السعودية، وأذرعها السياسية والإعلامية، في محاولة "إعادة تدوير" نفايات الأنظمة السابقة التي قامت عليها الثورات العربية. والأغرب أن ذلك الاحتفاء خاص بنجل معمر القذافي الذي تآمر على المملكة قبل ذلك، وثبت تورّطه في التخطيط لمحاولة اغتيال العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز. لكن يبدو أن الرغبة في إعادة التدوير لدى السعودية تطغى على أي خصومةٍ سابقة، فقط لأن ذلك يخدمها في حصارها قطر. ولا يجب أن يثير ذلك الاستغراب، فقد حاول زعيم الذباب الإلكتروني السعودي قبل ذلك زجّ اسم قطر، واتهمها بأنها كانت شريكة القذافي في محاولة اغتيال الملك عبد الله، فقط من أجل مناكفتها بطريقته الصبيانية المعتادة. كما اتهمت وسائل إعلام سعودية عديدة قطر بأنها متورّطة في مقتل القذافي الذي يرحبون بنجله حاليا.

جاءت تغريدة سيف الإسلام المزعومة في وقت تحتفل فيه تونس بالذكرى السابعة لثورتها على زين العابدين بن علي، بينما الأخير هانئ مطمئن لدى السعودية التي كانت الدولة الوحيدة التي قبلت استضافته، ومنحه ملاذا آمنا من المحاكمة التي كان يستحقها على جرائمه بحق الشعب التونسي عقودا، وهي مناسبة تذكّر ببدايات تعامل المملكة مع "النفايات"، ومثلت السابقة الأولى التي أعقبتها حالات متعددة، كان آخرها الاحتفاء بنجل القذافي. ففي اليمن، تكرّرت السياسة نفسها، عندما ساندت السعودية علي عبد الله صالح طوال أشهر اندلاع الثورة اليمنية، ووقفت في وجه تطلعات الشعب اليمني، وعالجت صالح عندما أصيب بحروق، نتيجة هجوم على قصره في أثناء الثورة، وأجبرت اليمنيين على قبول تنحيه فقط من دون خضوعه لأي محاكمة، ونسقت معه طوال أشهر ما بعد الثورة للانقلاب على الرئيس عبد ربه منصور هادي، لكنها صدمت عندما وجدت صالح يتحالف مع الحوثيين، ويجتاح معهم صنعاء، ليبدأ الملك سلمان عهده بمراجعة بعض الحسابات الخاصة بالملف اليمني، ويطلق "عاصفة الحزم" لمساندة الشرعية ضد صالح. ووجدت حساباتٌ سعوديةٌ على مواقع التواصل، تتوعد الأخير بأن مصيره سيصبح مثل مصير القذافي (يتباكون الآن عليه)، ليرد ويهاجم المملكة بعنف، ويصف ما تقوم به بـ"العدوان"، ويكشف عن وثيقة تزعم أن الملك فيصل بعث رسالة إلى الرئيس الأميركي، ليندون جونسون، يطالبه فيها بأن تحتل إسرائيل غزة وسيناء والضفة الغربية، لكن السعودية عادت فجأة إلى سياستها المعتادة في مساندة الطغاة، عندما ساندت صالح مرة أخيرة، أملا في أن يطيح الحوثيين، لكن المساندة كانت متأخرة، ليلقى صالح حتفه في مشهدٍ يشبه كثيرا مشهد مقتل القذافي الذي تنبأت به حسابات سعودية قبل ذلك، ويا لها من مفارقة. لتبدأ السعودية رحلة بحث عن نفاية جديدة من عائلةٍ يمكن لها إعادة تدويرها لتتابع تخريب اليمن الذي تفتك به المجاعة والأمراض جرّاء التدخل السعودي المستمر منذ ثلاثة أعوام من دون طائل.
لم تدخر السعودية في مصر جهدا في مساندة حسني مبارك، وكان من الهتافات المشهورة في ميدان التحرير وقتها "يا مبارك يا مبارك السعودية في انتظارك"، في إشارة إلى استعداد السعودية لاستقبال الحكام الذين تثور عليهم شعوبهم. وكشفت صحيفة الغارديان البريطانية في إبريل/ نيسان 2011 عن ممارسة السعودية ضغوطا كبيرة في القاهرة وواشنطن لمنع
محاكمة مبارك. وكشف موقع ويكيليكس عن وثائق عن عرض خليجي لإطلاق سراح مبارك آنذاك في مقابل مبلغ مالي، بعدما تأكدت الرياض أن مبارك سيصدر عليه حكم بالسجن. وكانت المملكة من أوائل المرحبين بالانقلاب العسكري الذي أعاد النظام القديم عام 2013، إذ صدر بيان ترحيبي بالانقلاب بعد 20 دقيقة من إعلان عبد الفتاح السيسي عزل محمد مرسي.
حتى الملف الوحيد الذي بدا فيه كأن السعودية تتخذ موقفا مغايرا لسياستها الثابتة في مساندة قمع الثورات، وهو الملف السوري، لم تؤد مساندتها الثورة إلى نجاحها أو تحقيق تطلعات الشعب السوري، بل لم تستمر في سياستها تلك طويلا، فالأنباء تطالعنا منذ أشهر بأن السعودية تعمل على إجبار المعارضة السورية بالقبول ببشار الأسد رئيسا، والبدء بالمفاوضات مع نظامه على هذا الأساس، وهو ما أدى إلى استقالة شخصيات من المعارضة احتجاجا على هذه الضغوط. وقد وصفت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تغير السياسة السعودية بالقول إنها "أصبحت حاليا من الدول التي ترقص على لحن روسيا في سورية". وكان المبعوث الروسي الخاص للرئيس الروسي في سورية قد أشاد بتغير موقف السعودية "غير المنضبط"، تجاه حكومة الأسد. كما كانت سياسة السعودية، منذ بداية الثورة، سببا رئيسيا في تشتيت الفصائل وتقسيمها عبر دعم بعضها على حساب أخرى، خصوصا المتشددة منها، وهو ما ساهم في دعم سردية النظام عن الثورة بأنها مجرد مواجهة مع "إرهابيين". ولا يُنسى بالطبع دور السعودية في إجهاض مظاهرات البحرين، وإرسالها قوات درع الجزيرة لقمع الحركة الاحتجاجية هناك، ولا أن من أهم أسباب الحصار الذي تتعرّض له قطر من السعودية وحلفائها هو دعم الدوحة الثورات العربية التي وقفت السعودية في الجانب الآخر لها، واتخذت من "إعادة تدوير النفايات" استراتيجية ثابتة لها على الدوام.
D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.