24 أكتوبر 2024
السبسي واستحقاقات المرحلة
لم يكن أكثر المحللين فهماً ومتابعة قادراً على توقع عودة الباجي قائد السبسي إلى الساحة السياسية في تونس، فهذا السياسي العتيق كان تقريباً قد أعلن عن نهاية حياته السياسية بعد توليه منصب رئيس مجلس النواب زمن بن علي سنة واحدة (1990-1991)، ثم يبتعد عن الأضواء، وهو الذي تقلّد مناصب وزارية عدّة في الزمن البورقيبي، ليس أدناها مكوثه على رأس الخارجية التونسية ست سنوات. ولكن تطور الأحداث بعد ثورة 14 يناير 2011 أعاده إلى الأضواء، وأعاد إليه شراهة العمل السياسي.
عند توليه منصب رئيس وزراء المرحلة الانتقالية سنة 2011، والتي تمت في ظلها أول انتخابات ديمقراطية، بدا السبسي كأنه بصدد استعادة حضوره وتأثيره في الوسط السياسي، ما تجلى بوضوح في موقفه الحاد من وزراء بن علي، حيث تم زجّ كثيرين منهم في السجون بتهم مختلفة، وهي خطوة فشلت الحكومات بعده في اتخاذ مثلها. وحينها كان الملمح العام يشي وكأن الرجل بصدد تصفية الحساب مع أتباع بن علي الذين استبعدوه من حلبة العمل السياسي، وإجباره على الراحة القسرية. وبعد صعود "الترويكا" إلى الحكم استفاد السبسي من حالة الشد والجذب التي عرفتها تلك الفترة، ليظهر بصورة المنقذ والشخصية الكاريزمية القادرة على تجميع فرقاء العمل السياسي المناهضين للحكم الجديد الذي أفرزته انتخابات 2011. حيث لعب أوراقه السياسية بمهارةٍ شديدةٍ، وقام بتوظيف كل الظروف الداخلية والخارجية من أجل تحقيق صعودٍ جارفٍ في المشهد السياسي، وهو ما استطاع تحقيقه بحذق ومهارة شديدين، يليقان بشخصية سياسية مخضرمة ظلت قريبة من دوائر صنع القرار عقوداً.
قدّم الباجي السبسي نفسه باعتباره حامياً للتراث البورقيبي، ومدافعاً عن "النمط" المجتمعي الذي تتهدّده مخاطر الأسلمة المفترضة، وأصبح رمزاً لقوةٍ سياسيةٍ تمكّنت من تعبئة كل المتضرّرين
من الثورة، بالإضافة إلى الخصوم الإيديولوجيين للترويكا ممن حالفوها زمن الاستبداد، ثم وجدوا أنفسهم في الخندق نفسه مع السبسي (موقف الجبهة الشعبية اليسارية من الدور الثاني للانتخابات الرئاسية، لم تدع إلى انتخاب السبسي، ولكنها خدمته عندما دعت أتباعها صراحة إلى قطع الطريق على المرشح المنصف المرزوقي). وككل سياسي براغماتي، استفاد الباجي من خصوم التيار الإسلامي، ولكنه لم ينجرّ إلى القطيعة مع حركة النهضة التي سيفاجئ جميع حلفائه وأتباعه بتحالفه معها في تشكيل الحكومة الجديدة، من دون أن يأبه لمواقف حلفائه السابقين، أو مواقفهم المنتقدة حيناً والمندّدة حيناً آخر.
وفي منصب رئاسة الجمهورية، وجد السبسي نفسه في مواجهة حساباتٍ جديدةٍ، أهمها موقع الرئاسة نفسه الذي لم يعد المنصب الذي يدير كل خيوط الحكم، وإنما هو شريك صغير في مشهدٍ يديره رئيس الحكومة، ويراقبه برلمان منتخب، يضم معارضةً شرسة وشديدة الانتقاد. وهنا، تأتي لحظة الاستفادة من موقعه الثاني، بوصفه الزعيم الفعلي للحزب الحاكم (نداء تونس)، وهو موقع مكّنه من تغيير رئيس الحكومة، الحبيب الصيد، الذي كان يبدي كثيراً من الاستقلالية والرغبة في مزاولة صلاحياته، ليأتي بوجه شاب وطارئ على الساحة السياسية، ويفتقد للخبرة أو القدرة، وليفرض السبسي، من خلاله، خياراته السياسية، ويمسك بخيوط اللعبة مجدّداً.
وفي ظل تصاعد الاحتجاجات على الجبهة الاجتماعية، والتي تطالب بالتنمية وبمحاسبة
الفاسدين، كان على الرئيس الباجي قائد السبسي أن يطلّ على الشعب، ليقدم تصوراته حول الأزمة. وهنا يمكن ملاحظة جملة من النقاط، أولها أن الرئيس تعامل مع الوضع المتأزم في بعض مناطق البلاد بمنطق إدارة الأزمة، وليس حلّها، محتمياً كعادته بقوة الدولة (وهو الذي تربى في كنفها ومارس السياسة في أروقتها) بإعلانه عن تولي الجيش حماية المناطق النفطية والثروات الطبيعية. وثانياً، كان واضحاً إصرار الرجل على تمرير قانون المصالحة الاقتصادية الذي اقترحه منذ 2015، وواجه صعوباتٍ جمّة، أدت إلى عدم إقراره وتمريره برلمانياً، وحتى في بعض الأوساط الشعبية، وهو موقفٌ محرجٌ للرجل، من حيث أنه وجد نفسه بين رغبته في إرضاء داعميه من رجال الأعمال المستفيدين من هذا القانون وصعوبة إقناع الجمهور به، وهو ما دفعه إلى التأكيد على أن الإعلام لا يقوم بدوره اللازم في إقناع عامة الشعب بأهمية المصالحة وضرورتها، من أجل تحسين الوضع الاقتصادي. وفي صراعه مع قوى المعارضة السياسية، جمع الرئيس بين نقد قوىً وصفها بأنها غير مسؤولة، وفي الوقت نفسه دعا من جديد إلى انضمام مزيد من الأحزاب إلى حكومة الوحدة الوطنية التي بشّر بها، ومنح رئاستها ليوسف الشاهد.
وبغضّ النظر عن الخيارات التي ينتهجها السبسي، فإنه يظل (وبصورة شخصية بعيداً عن المنصب) أحد أهم اللاعبين السياسيين في المشهد السياسي التونسي، بالنظر إلى قدرته على تقديم خطاب شعبوي، يجتذب قطاعاً لا بأس به من الجمهور التونسي، والأهم استفادته الواضحة من ضعف خصومه السياسيين، وتشتتهم وعجزهم عن الوحدة، وتقديم بدائل يمكنها أن تكون مدخلاً إلى تغيير حقيقي في المشهد السياسي في البلاد.
عند توليه منصب رئيس وزراء المرحلة الانتقالية سنة 2011، والتي تمت في ظلها أول انتخابات ديمقراطية، بدا السبسي كأنه بصدد استعادة حضوره وتأثيره في الوسط السياسي، ما تجلى بوضوح في موقفه الحاد من وزراء بن علي، حيث تم زجّ كثيرين منهم في السجون بتهم مختلفة، وهي خطوة فشلت الحكومات بعده في اتخاذ مثلها. وحينها كان الملمح العام يشي وكأن الرجل بصدد تصفية الحساب مع أتباع بن علي الذين استبعدوه من حلبة العمل السياسي، وإجباره على الراحة القسرية. وبعد صعود "الترويكا" إلى الحكم استفاد السبسي من حالة الشد والجذب التي عرفتها تلك الفترة، ليظهر بصورة المنقذ والشخصية الكاريزمية القادرة على تجميع فرقاء العمل السياسي المناهضين للحكم الجديد الذي أفرزته انتخابات 2011. حيث لعب أوراقه السياسية بمهارةٍ شديدةٍ، وقام بتوظيف كل الظروف الداخلية والخارجية من أجل تحقيق صعودٍ جارفٍ في المشهد السياسي، وهو ما استطاع تحقيقه بحذق ومهارة شديدين، يليقان بشخصية سياسية مخضرمة ظلت قريبة من دوائر صنع القرار عقوداً.
قدّم الباجي السبسي نفسه باعتباره حامياً للتراث البورقيبي، ومدافعاً عن "النمط" المجتمعي الذي تتهدّده مخاطر الأسلمة المفترضة، وأصبح رمزاً لقوةٍ سياسيةٍ تمكّنت من تعبئة كل المتضرّرين
وفي منصب رئاسة الجمهورية، وجد السبسي نفسه في مواجهة حساباتٍ جديدةٍ، أهمها موقع الرئاسة نفسه الذي لم يعد المنصب الذي يدير كل خيوط الحكم، وإنما هو شريك صغير في مشهدٍ يديره رئيس الحكومة، ويراقبه برلمان منتخب، يضم معارضةً شرسة وشديدة الانتقاد. وهنا، تأتي لحظة الاستفادة من موقعه الثاني، بوصفه الزعيم الفعلي للحزب الحاكم (نداء تونس)، وهو موقع مكّنه من تغيير رئيس الحكومة، الحبيب الصيد، الذي كان يبدي كثيراً من الاستقلالية والرغبة في مزاولة صلاحياته، ليأتي بوجه شاب وطارئ على الساحة السياسية، ويفتقد للخبرة أو القدرة، وليفرض السبسي، من خلاله، خياراته السياسية، ويمسك بخيوط اللعبة مجدّداً.
وفي ظل تصاعد الاحتجاجات على الجبهة الاجتماعية، والتي تطالب بالتنمية وبمحاسبة
وبغضّ النظر عن الخيارات التي ينتهجها السبسي، فإنه يظل (وبصورة شخصية بعيداً عن المنصب) أحد أهم اللاعبين السياسيين في المشهد السياسي التونسي، بالنظر إلى قدرته على تقديم خطاب شعبوي، يجتذب قطاعاً لا بأس به من الجمهور التونسي، والأهم استفادته الواضحة من ضعف خصومه السياسيين، وتشتتهم وعجزهم عن الوحدة، وتقديم بدائل يمكنها أن تكون مدخلاً إلى تغيير حقيقي في المشهد السياسي في البلاد.