13 نوفمبر 2024
الرياضة والهوية... على أعتاب "ربيع فرنسي"
تعيش فرنسا، هذه الأيام، جدلاً كبيراً اختلطت فيه معطيات الاقتصاد بالسياسة، وأضافت لها الرياضة، على خلفية خلو قائمة اللاعبين المدعوين لتمثيل منتخب فرنسا في كأس أوروبا للأمم من أسماء بن زيمة وبن عرفة، الفرنسيين من أصول مغاربية، نكهةً جعلت من القضية مسألة هويةٍ، انطلق الكل في التعليق عليها، ساسة وفنانون ورياضيون ورجال إعلام... إنها فرنسا بتجلياتها الهوياتية، وبوجهها الذي تكشر به عن أنياب اليمين المتطرف، أو نبرة العنصرية الموجودة، كما يحلو لبعضهم التعبير عنه، والمكبوتة في أعماق الفرنسيين، والتي، بدنو المواعيد الانتخابية، تطفو الى السطح، وتنشط الجدالات السياسية في بلاتوهات الشاشات، وعلى صفحات الجرائد وعلى الإنترنت.
في البداية، نطق الوزير الأول الفرنسي، مانويل فالس، والذي كان الأول في المسارعة إلى الاعلان على أن المشكلات الأخلاقية تحول دون التمكين من شرف حمل الألوان الفرنسية في التظاهرات الرياضية، في إشارة إلى القضية التي ورط بن زيمة نفسه فيها ضد اللاعب فالبوينا، ذات الخلفية الأخلاقية. كان لهذا الإعلان وقعه المدوي، لأن بعضهم طالب بتوسيع القرار إلى السياسيين، باعتبار أن على المشكلات من النوع نفسه أن تخرج من دائرة التمثيل، حتى السياسيين، ليكون التعامل متساوياً مع المتورطين في قضايا أخلاقية، ولتتحقق العدالة في الإقصاء على الجميع.
في الحقيقة، لم يكن للسياسيين، أياً كانت انتماءاتهم الأيديولوجية في فرنسا، الرأي نفسه، بل انبرى بعضهم للدفاع عن بن زيمة، على غرار الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي (المتورط قضائياً في قضايا فساد كثيرة)، الذي عبر، بخلفيةٍ سياسية، عن استغرابه للخلط بين السياسـة والرياضة، وأشار أيضاً إلى ضرورة الفصل بين المجالين أو التسوية في التعامل مع جميع من لهم مشكلات تحول دون شرف تمثيلهم لأية مسؤولية في البلاد، رياضية أو سياسية، مذكّرا بفضائح مالية لبعض الساسة اليساريين، خصوصاً المقربين منهم من الرئيس الحالي، فرانسوا هولاند.
أما اليمين المتطرف فلقد كان، وما يزال، يرى في الرياضيين من أصولٍ عربية، خصوصاً، أناساً لا مجال لمنحهم فرصة حمل ألوان فرنسا، متذرّعة بأن كثيرين منهم لا يغني النشيد الفرنسي، وهي الأسطوانة المشروخة التي تم تشغيلها منذ كان الأسطورة زيدان يلعب لمنتخب فرنسا في تسعينيات القرن الماضي.
بقيت الاشارة، هنا، إلى أن مسألة الهوية كثيراً ما دخلت النقاش السياسي في فرنسا، وخصوصاً عندما تقترب المواعيد الانتخابية، على خلفية وعد يساري بمنح المغتربين حق المشاركة في الاقتراع في المواعيد الانتخابية المحلية، وهو الوعد الذي لم ينفذ إلى الآن، وأصبح الشعار الذي يحمله نواب التيار الأخضر واليسار الشيوعي فقط، من دون توسيعه، ليصبح مطلباً سياسياً جماهيرياً.
على المستوى الجماهيري، تدل عمليات سبر الآراء على الانقسام داخل المجتمع الفرنسي حيال
مسألة الهوية في السياسة، وخصوصاً عندما تثار مسألة تطابق الإسلام مع الديمقراطية، أو السماح للمغتربين بالاقتراع في الانتخابات المحلية. وقد دخل الرياضيون هذا الجدال، ليعبروا فيه عن امتعاضهم من الخلط بين المشكلات وتمثيل المنتخب الفرنسي في المواعيد الرياضية الكبرى. وكان أول المتدخلين المدرب المخضرم غي رو الذي قال إن ثمة خلفية عنصرية وراء استبعاد بن زيمة وناصري، وهي الخلفية نفسها التي كانت سائدة في خمسينيات القرن الماضي ضد الفرنسيين من أصول إيطالية، لتطاول الآن الفرنسيين من أصول خصوصاً عربية.
وجاءت تصريحات اللاعب الأسطورة في بريطانيا، إريك كانتونا (المتزوج من مخرجة من أصول جزائرية) لتشعل القضية أكثر، حيث أكد أن الأصول المغاربية لللاعبين بن زيمة وبن عرفة هي من حالت دون انتدابهم لحمل ألوان فرنسا في منافسات كأس أوروبا للأمم المقبلة في فرنسا. وانبرى سياسيون كثيرون في الرد على كانتونا (هو من أصول إسبانية)، لكن ردوده عليهم حملت التأكيد على أن ما ذكره هو الصحيح، وأن الرياضة كانت دائماً ما تلعب في فرنسا بنكهة هوياتية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالمنتخب الفرنسي لكرة القدم.
بعد كل هذا الجدل، يمكن التطرق إلى حقيقة كان للممثل جمال دبوز، من أصول مغربية، الفضل في إثارتها، وهي التزامن بين الموعد الرياضي المرتقب (كأس أوروبا للأمم في كرة القدم في فرنسا) والأزمة الاقتصادية والخلفية الاجتماعية للتظاهرات التي ما زالت فرنسا مسرحاً لها منذ بدء الحديث حول قانون العمل الجديد المقترح أيضا (هل هي مصادفة؟) من وزيرةٍ أصولها مغربية (مريم الخمري). والمعلوم أن فرنسا تعيش، منذ 2007، أزمة اقتصادية خانقة، لم تعرف كيفية الخروج منها، مثلت البطالة المرتفعة، شهراً بعد شهر، لتصل إلى أكثر من ثلاثة ملايين عاطل، علامتها البارزة، إضافة إلى تعطل المشروع الأوروبي (إفلاس اليونان ومشروع "البريكسيت"، أي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) بسبب، خصوصاً الخلافات مع الجارة القوية ألمانيا، وصولاً إلى النتائج الكارثية لرئاسة اليساري هولاند الذي تراجعت فيها فرنسا، وعلى جميع الأصعدة، منذ اعتلائه سدة الحكم في 2012، ما يدل على أن المشكلة أكبر من أن تكون رياضية، بل خلفيتها وجودية اختلط، للتخفيف من وطأتها، السياسي، بالإعلامي وبالثقافي، وكبش فدائها المغاربيون، ولو كانوا رياضيين فقط.
قال جمال دبوز إن بن زيمة وبن عرفة ضحيتان للظروف الاجتماعية الفرنسية الحالية، أي أن الأزمة كانت لها انعكاساتها في ارتفاع موجة "الكراهية للأجانب" المرافقة، دائماً، للظروف الصعبة، وهي ظاهرة أوروبية بامتياز، بالنظر إلى انتصار اليمين المتطرّف في أكثر من بلد أوروبي (النمسا آخرها في رئاسياتٍ كاد اليمين المتطرف أن يربحها)، من دون نسيان تزامن تلك الموجة من الكراهية مع موجة العداء لكل ما هو عربي ومسلم، على خلفية الاعتداءات الإرهابية التي شهدتها فرنسا وبلجيكا أخيراً.
يبدو، نتيجة لكل ما ذكر، أن ثمة ارتباطا وثيقا، الآن، وخصوصاً مع ثورة الإعلام والاتصال، بين كل المجالات والهوية، وبأن حتى البلدان المتقدمة تجد متنفسها للتعبير عن جملة الإحباطات (خصوصاً الاقتصادية منها) في مسألة الهوية، ولعل الانتخابات الأميركية المرتقبة التي لها صدى كبير في فرنسا، وإمكانية انتداب الجمهوريين للمترشح المثير للجدل، دونالد ترامب، هي مفتاح ما ستؤول إليه الجدالات السياسية الفرنسية.
بقيت الإشارة إلى أن السنة المقبلة، 2017، هي سنة الانتخابات الرئاسية الفرنسية، والتي بدأ الجميع يتموقع لها. ويبدو، أيضا، أن عمليات سبر الآراء استطاعت أن توجد الوجهة الممكنة لتلك الانتخابات، بإبراز إمكانية إعادة سيناريو 2002 مع وصول مرشحة اليمين المتطرّف، مارين لوبان، إلى الدور الثاني، على خلفية "الظروف الاجتماعية" التي حلت، وحضرت في مجالات كثيرة، هي الآن رياضية، وربما ستكون في المستقبل القريب في مجالات أخرى، محورها كلها: الهوية.
في البداية، نطق الوزير الأول الفرنسي، مانويل فالس، والذي كان الأول في المسارعة إلى الاعلان على أن المشكلات الأخلاقية تحول دون التمكين من شرف حمل الألوان الفرنسية في التظاهرات الرياضية، في إشارة إلى القضية التي ورط بن زيمة نفسه فيها ضد اللاعب فالبوينا، ذات الخلفية الأخلاقية. كان لهذا الإعلان وقعه المدوي، لأن بعضهم طالب بتوسيع القرار إلى السياسيين، باعتبار أن على المشكلات من النوع نفسه أن تخرج من دائرة التمثيل، حتى السياسيين، ليكون التعامل متساوياً مع المتورطين في قضايا أخلاقية، ولتتحقق العدالة في الإقصاء على الجميع.
في الحقيقة، لم يكن للسياسيين، أياً كانت انتماءاتهم الأيديولوجية في فرنسا، الرأي نفسه، بل انبرى بعضهم للدفاع عن بن زيمة، على غرار الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي (المتورط قضائياً في قضايا فساد كثيرة)، الذي عبر، بخلفيةٍ سياسية، عن استغرابه للخلط بين السياسـة والرياضة، وأشار أيضاً إلى ضرورة الفصل بين المجالين أو التسوية في التعامل مع جميع من لهم مشكلات تحول دون شرف تمثيلهم لأية مسؤولية في البلاد، رياضية أو سياسية، مذكّرا بفضائح مالية لبعض الساسة اليساريين، خصوصاً المقربين منهم من الرئيس الحالي، فرانسوا هولاند.
أما اليمين المتطرف فلقد كان، وما يزال، يرى في الرياضيين من أصولٍ عربية، خصوصاً، أناساً لا مجال لمنحهم فرصة حمل ألوان فرنسا، متذرّعة بأن كثيرين منهم لا يغني النشيد الفرنسي، وهي الأسطوانة المشروخة التي تم تشغيلها منذ كان الأسطورة زيدان يلعب لمنتخب فرنسا في تسعينيات القرن الماضي.
بقيت الاشارة، هنا، إلى أن مسألة الهوية كثيراً ما دخلت النقاش السياسي في فرنسا، وخصوصاً عندما تقترب المواعيد الانتخابية، على خلفية وعد يساري بمنح المغتربين حق المشاركة في الاقتراع في المواعيد الانتخابية المحلية، وهو الوعد الذي لم ينفذ إلى الآن، وأصبح الشعار الذي يحمله نواب التيار الأخضر واليسار الشيوعي فقط، من دون توسيعه، ليصبح مطلباً سياسياً جماهيرياً.
على المستوى الجماهيري، تدل عمليات سبر الآراء على الانقسام داخل المجتمع الفرنسي حيال
وجاءت تصريحات اللاعب الأسطورة في بريطانيا، إريك كانتونا (المتزوج من مخرجة من أصول جزائرية) لتشعل القضية أكثر، حيث أكد أن الأصول المغاربية لللاعبين بن زيمة وبن عرفة هي من حالت دون انتدابهم لحمل ألوان فرنسا في منافسات كأس أوروبا للأمم المقبلة في فرنسا. وانبرى سياسيون كثيرون في الرد على كانتونا (هو من أصول إسبانية)، لكن ردوده عليهم حملت التأكيد على أن ما ذكره هو الصحيح، وأن الرياضة كانت دائماً ما تلعب في فرنسا بنكهة هوياتية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالمنتخب الفرنسي لكرة القدم.
بعد كل هذا الجدل، يمكن التطرق إلى حقيقة كان للممثل جمال دبوز، من أصول مغربية، الفضل في إثارتها، وهي التزامن بين الموعد الرياضي المرتقب (كأس أوروبا للأمم في كرة القدم في فرنسا) والأزمة الاقتصادية والخلفية الاجتماعية للتظاهرات التي ما زالت فرنسا مسرحاً لها منذ بدء الحديث حول قانون العمل الجديد المقترح أيضا (هل هي مصادفة؟) من وزيرةٍ أصولها مغربية (مريم الخمري). والمعلوم أن فرنسا تعيش، منذ 2007، أزمة اقتصادية خانقة، لم تعرف كيفية الخروج منها، مثلت البطالة المرتفعة، شهراً بعد شهر، لتصل إلى أكثر من ثلاثة ملايين عاطل، علامتها البارزة، إضافة إلى تعطل المشروع الأوروبي (إفلاس اليونان ومشروع "البريكسيت"، أي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) بسبب، خصوصاً الخلافات مع الجارة القوية ألمانيا، وصولاً إلى النتائج الكارثية لرئاسة اليساري هولاند الذي تراجعت فيها فرنسا، وعلى جميع الأصعدة، منذ اعتلائه سدة الحكم في 2012، ما يدل على أن المشكلة أكبر من أن تكون رياضية، بل خلفيتها وجودية اختلط، للتخفيف من وطأتها، السياسي، بالإعلامي وبالثقافي، وكبش فدائها المغاربيون، ولو كانوا رياضيين فقط.
قال جمال دبوز إن بن زيمة وبن عرفة ضحيتان للظروف الاجتماعية الفرنسية الحالية، أي أن الأزمة كانت لها انعكاساتها في ارتفاع موجة "الكراهية للأجانب" المرافقة، دائماً، للظروف الصعبة، وهي ظاهرة أوروبية بامتياز، بالنظر إلى انتصار اليمين المتطرّف في أكثر من بلد أوروبي (النمسا آخرها في رئاسياتٍ كاد اليمين المتطرف أن يربحها)، من دون نسيان تزامن تلك الموجة من الكراهية مع موجة العداء لكل ما هو عربي ومسلم، على خلفية الاعتداءات الإرهابية التي شهدتها فرنسا وبلجيكا أخيراً.
يبدو، نتيجة لكل ما ذكر، أن ثمة ارتباطا وثيقا، الآن، وخصوصاً مع ثورة الإعلام والاتصال، بين كل المجالات والهوية، وبأن حتى البلدان المتقدمة تجد متنفسها للتعبير عن جملة الإحباطات (خصوصاً الاقتصادية منها) في مسألة الهوية، ولعل الانتخابات الأميركية المرتقبة التي لها صدى كبير في فرنسا، وإمكانية انتداب الجمهوريين للمترشح المثير للجدل، دونالد ترامب، هي مفتاح ما ستؤول إليه الجدالات السياسية الفرنسية.
بقيت الإشارة إلى أن السنة المقبلة، 2017، هي سنة الانتخابات الرئاسية الفرنسية، والتي بدأ الجميع يتموقع لها. ويبدو، أيضا، أن عمليات سبر الآراء استطاعت أن توجد الوجهة الممكنة لتلك الانتخابات، بإبراز إمكانية إعادة سيناريو 2002 مع وصول مرشحة اليمين المتطرّف، مارين لوبان، إلى الدور الثاني، على خلفية "الظروف الاجتماعية" التي حلت، وحضرت في مجالات كثيرة، هي الآن رياضية، وربما ستكون في المستقبل القريب في مجالات أخرى، محورها كلها: الهوية.