الذكرى السابعة لمذبحة رابعة: عمر مروان يغطي الجريمة

14 اغسطس 2020
خلال اعتصام عام 2015 في نيويورك للتنديد بمذبحة رابعة (الأناضول)
+ الخط -

تحلّ الذكرى السابعة لمجزرة فضّ اعتصامي رابعة العدوية والنهضة في مصر لمؤيدي الرئيس الراحل محمد مرسي ومعارضي انقلاب 3 يوليو/ تموز 2013، والعدالة مازالت فاقدة طريقها لهذه القضية الشائكة التي ستظلّ جرحاً لا يندمل في تاريخ مصر الحديث طالما بقي المجرمون أحراراً، والضحايا ما بين قتيل ومعتقل ومشرد ومدرج على قائمة الإرهاب. والمفارقة أنّ وزير العدل الحالي عمر مروان، الذي كان من الممكن أن يمهّد بسلطاته وصلاحياته طريقاً لكشف الحقيقة، هو نفسه الرجل الذي أشرف على كتابة التقرير الحكومي الوحيد للجنة تقصي الحقائق التي شكلت في أعقاب المذبحة، على سبيل ذر الرماد في العيون وتصنّع قيام الدولة المصرية بواجبها تجاه الدماء المسفوكة وأهالي الشهداء.
فالمستشار عمر مروان، الذي ظلّ الاعتماد عليه لسنوات طويلة في لجان تقصي الحقائق وإدارة الاستحقاقات الانتخابية، لغزاً، ما بين آراء متناقضة حول مسيرته القضائية ونزاهته السياسية، وتكهنات بشأن الجهات التي يدين لها بالولاء، لم يعد الآن لغزاً، بعدما استطاع إثبات ولائه لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي؛ فحلّ أولاً وزيراً لشؤون مجلس النواب، ثمّ حقق انتقالاً يمكن وصفه بالاستثنائي، بحصوله على منصب وزير العدل، كواحد من أصغر من تولوا المنصب سناً وأقلهم خبرة قضائية وأطولهم ابتعاداً عن منصة القضاء.



استطاع مروان مدّ جسور الثقة والتواصل مع الأجهزة الأمنية والمخابراتية والعسكرية

لم تكن لعمر مروان سابقة خبرة في العمل بتقصي الحقائق، وكان مجهولاً في أوساط السياسة المصرية، عندما اختير في منصب الأمين العام للجنة تقصي الحقائق في أحداث ثورة يناير/كانون الثاني 2011 التي شكّلها رئيس الوزراء الأسبق أحمد شفيق، بعد ثلاثة أيام من تنحّي الرئيس المخلوع حسني مبارك عن الحكم، واستغرق عملها شهرين، قبل أن تسلّم تقريرها إلى النيابة العامة في 19 إبريل/نيسان 2011. وفي ذلك الوقت، استطاع مروان مدّ جسور الثقة والتواصل مع الأجهزة الأمنية والمخابراتية والعسكرية، وساهم التقرير الذي أشرف على إخراجه في تفريغ جميع قضايا قتل المتظاهرين من محتواها، حتى أصبحت نجاة كثيرين من تهم قتل شهداء الثورة موضعاً لتندر المراقبين والإعلاميين داخل مصر وخارجها.
جادل مروان في ذلك خلال تلك الفترة ملقياً اللوم على النيابة العامة والشرطة والقضاء الذي لم يقبل الاعتداد بالقرائن التي وفرها تقرير لجنة تقصي الحقائق، لكن باستعراض التقرير نفسه يظهر أنه كان فقيراً وغير منتج بما يكفي، ليتيح للجميع استبعاده من دون ندم. الأمر الذي دعا الرئيس محمد مرسي في أعقاب فوزه بالانتخابات وأدائه اليمين الدستورية، إلى إصدار قرار في 6 يوليو/تموز 2012، بتشكيل لجنة جديدة لتقصي الحقائق عن وقائع قتل وإصابة المتظاهرين السلميين، في الفترة من 25 يناير/كانون الثاني 2011 إلى 30 يونيو/حزيران 2012.
وعلى نحو مفاجئ؛ أعاد مرسي الاعتماد على مروان بسبب إجادة الأخير لاتصالات العلاقات العامة، إذ استطاع التصوير لشخصيات في دائرة مرسي المقربة وجماعة الإخوان المسلمين وكأنه تعرّض لمحاولات إفشال متعمدة خلال عمله باللجنة الأولى، واعداً بمزيد من البحث والتدقيق المنتج في اللجنة الثانية. ولأنّ عمل اللجنتين كان مرتبطاً بالضرورة، تولى مروان منصب الأمين العام للجنة الثانية. ومن موقعه، فرض قيوداً حديدية على تفاصيل التقرير وتعامل معه كسرّ حربي، بحجة منع التأثير على تحقيقات النيابة العامة واتصالات اللجنة ذاتها. وقد ساعد قصر المدة بين تسليم التقرير لمرسي والانقلاب عليه في 3 يوليو/تموز 2013، باختفاء التقرير إلى الأبد.

وتروي مصادر عدة اطلعت على عمل تلك اللجنة، أنّ مروان كان قناة الاتصال مع جميع الأجهزة الأمنية والعسكرية، وأنه ساهم في التعتيم على بعض الوقائع التي نسبت للجيش خلال الفترة الانتقالية أو اقتصار التحقيق فيها على صغار المجندين والضباط لحماية القيادات الكبرى، وبعضهم كانوا أعضاء بالمجلس العسكري، مما تسبب في خلافات عديدة داخل اللجنة وتهديد البعض بتسريب أجزاء من التقرير قبل تنقيحه لإخلاء المسؤولية أمام الرأي العام الذي كان يعوّل كثيراً على تلك اللجنة.



ساهم مروان في التعتيم على بعض الوقائع التي نسبت للجيش خلال الفترة الانتقالية

وعقب عزل مرسي وارتكاب الجيش والشرطة مذبحتي رابعة والنهضة، وللتهرب من الضغط الدولي، شكّل الرئيس المؤقت آنذاك عدلي منصور، لجنة لتقصي حقائق أحداث "30 يونيو". وفوجئ الرأي العام باختيار مروان أميناً عاماً لها أيضاً، واستمر عملها لمدة 11 شهراً، قبل أن تسلّم تقريرها السري إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، كانت حصيلته النهائية إدانة جماعة "الإخوان" وتحميلها مسؤولية المذابح التي ارتُكبت بحق أنصارها وبعض الحوادث الإرهابية والعنيفة الأخرى، والحديث بأخفّ العبارات عن قوات الدولة من جيش وشرطة بأنهم "استخدموا القوة بصورة مبالغ فيها خلال بعض الأحداث" من دون إدانة صريحة أو ضمنية.
لكنّ أهم ما حمله تقرير مروان أنّ القوات التي قامت بتنفيذ فضّ اعتصام رابعة هي قوات الداخلية فقط، مبرّئاً الجيش، ومشيراً إلى أنّ الاعتصام شهد ممارسة جرائم تخالف القوانين المحلية والدولية كالتعذيب والقتل خارج إطار القانون والقبض على بعض المواطنين واحتجازهم والتحريض على العنف والكراهية واستغلال الأطفال وحمل السلاح مما استوجب فضّه. وكذلك فإنّ قوات الشرطة قد التزمت بالمعايير الدولية في عملية الفض واستخدمت القوة بالقدر اللازم، وتوفرت لها حالة الضرورة في استخدام الأسلحة النارية وحافظت على التناسب النوعي بين الأسلحة المستخدمة، إلا أنها قد ارتكبت بعض الأخطاء الإجرائية غير المبررة، حيث كان المسلحون داخل الاعتصام يتحركون ويطلقون النيران من وسط المعتصمين، في ما يمكن وصفه باستخدامهم المعتصمين كدروع بشرية.
كما انتهى التقرير إلى أنّ عدد القتلى في أحداث فضّ رابعة والنهضة كان 632 قتيلاً بينهم 8 من ضباط الشرطة، مشيراً إلى أنّ اللجنة لم تطلع على خطة الفضّ التي أعدتها وزارة الداخلية وقامت باستنباطها من الأحداث، وكذلك لم تطلع على إذن الفضّ الصادر من النائب العام، وزعم أنّ الشرطة أمهلت المعتصمين 25 دقيقة فقط بين الإنذار وبدء الفضّ، لكنها لم تستطع تأمين الممر الآمن الذي أعدّته لخروج المعتصمين، وهو ما اعتبره التقرير خطأً إجرائياً، مما أفضى إلى تحميل المعتصمين مسؤولية الانتهاكات التي حدثت وجرائم القتل، بينما اقتصرت انتهاكات الشرطة على أخطاء إدارية وإجرائية.
وبذلك تضخّم دور عمر مروان، من التعتيم على وقائع صغيرة إلى كتم شهادات حية وعلنية عن أكبر مذبحة ضدّ مدنيين في تاريخ مصر، مخالفاً المعايير الدولية الخاصة بجمع وتصنيف قواعد تقصي الحقائق والقواعد النموذجية لإجراءات تقصي الحقائق الخاصة بهيئات الأمم المتحدة الصادرة عام 1970، إذ اعتمد على معلومات رسمية صادرة من جهات تثار الشكوك حول تورطها في الواقعة، ولم يبادر لجمع الأدلة بشكل مستقل. إذ اعتمدت لجنة مروان على تحريات وزارة الداخلية بشكل كامل وما رددته الأجهزة الأمنية في بياناتها الرسمية من اتهامات غير ثابتة بدليل مادي أو بحكم قضائي، واعتبرتها معلومات مسلّما بها من دون تحقيق أو تثبّت. كما لم تلتفت لأي من التقارير والبيانات التي صدرت عن عشرات المنظمات والمؤسسات التي عملت على الموضوع ذاته وخلصت إلى نتائج واضحة ومحددة، مما حول عمل اللجنة إلى غطاء شكلي ووسيلة لشرعنة السردية السلطوية.



اعتمدت لجنة مروان في تحقيقها بمذبحة رابعة على تحريات وزارة الداخلية بشكل كامل وما رددته الأجهزة الأمنية

وبحسب "المنظمة العربية لحقوق الإنسان"، ومقرها بريطانيا، في تقرير مطول لها عن الواقعة وتقصي الحقائق عنها، فقد كان يتوجب على لجنة مروان أن تستمع إلى شهادات كافة الشهود والضحايا وأسرهم، وأن يكون لها في سبيل ذلك زيارة أي مكان بحرية ومن دون إشعار سابق، وعقد اجتماعاتها بحرية في أي مكان، وإجراء مقابلات بحرية وعلى انفراد مع أي فرد أو مجموعة من الأفراد أو أعضاء الهيئات أو المؤسسات، وجمع المعلومات ذات الصلة بأي وسيلة تعتبرها مناسبة. إلا أنّ اللجنة لم تلتزم بأي من هذه المعايير، ولم تستمع إلى مصابي فضّ الاعتصام من المعتصمين أو أسر الضحايا أو شهود العيان، إلا بأعداد قليلة جداً لتضفي شكلاً حيادياً على أدلة التقرير، كما أنها لم تشر إلى شهاداتهم أو تأخذ بها أو تقبل ما ورد فيها. كما لم تنتقل إلى السجون لتسمع أقوال المعتقلين من داخل فضّ الاعتصام حول الأحداث، وهنا لا يمكن غضّ النظر عن شكوى القيادي بجماعة الإخوان، المعتقل محمد البلتاجي، ضدّ اللجنة بتحريف إفادته وتغيير ألفاظها لتهيئة تقريرها لخدمة أغراض السلطة.
ولذلك، لم يكن غريباً خروج التقرير بنتائج غير واقعية ولا منطقية، إذ ادعى اندلاع اشتباكات طوال 11 ساعة وإطلاق نيران حية من داخل الاعتصام على قوات الشرطة طوال هذه الفترة مبرراً استخدام الأخيرة للنيران بالقدر المناسب تجاه المعتصمين، ومتجاهلاً ما جاء في الأوراق الرسمية من أنّ كل الأسلحة التي تم ضبطها في الاعتصام هي 9 أسلحة نارية فقط، فبدا وكأن اللجنة تناضل لخلق الأعذار للشرطة.
وامتداداً للدور الذي لعبه في مذبحتي رابعة والنهضة، ترأس مروان وفد مصر في الاستعراض الشامل لأوضاع حقوق الإنسان بمصر في جنيف في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وأشرف على كتابة تقرير ادعى بثقة -وكان محل سخرية في أوساط الحاضرين- أنّ مصر نفّذت 224 توصية كاملة من بين 300 توصية قُدِّمَت في المراجعة الثانية للاستعراض الدوري، بينما قبلت 23 توصية جزئياً، ورفضت 23 توصية أخرى، وأخذت علماً بـ29 توصية، واعتبرت توصية واحدة غير دقيقة. وزعم أنّ النظام المصري الحالي يحترم الحقوق والحريات الفردية والجماعية، واتخذ تدابير لوقف الاعتداءات في السجون وضمان حرية الصحف ووسائل الإعلام والنشر والتعبير والتظاهر والاحتجاج، غاضاً البصر عن جميع التقارير والشهادات التي تؤكد عكس حديثه تماماً.
وتظهر المقارنة بين أداء مروان في دور كاشف الحقائق، وأدائه كمدافع عن نظام متهم بالإجرام بحق شعبه، أنّ الرجل لم يغير جلده على عكس تحليل كثيرين، كل ما في الأمر أنه تعامل مع المهام التي أوكلت إليه طوال عقد كامل كوظائف مؤقتة يتولى كلا منها ليضمن الصعود لوظيفة أخرى بصلاحية أكبر، حتى وإن كان ذلك على مدارج متشحة بالدماء.

الجريمة والعقاب
التحديثات الحية
المساهمون