11 نوفمبر 2024
الدبلوماسية التونسية ومستجدّات الوضع الليبي
يبدو أن الموقف الرسمي التونسي من الأزمة الليبية، وخصوصاً من مسألة التدخل العسكري قد تغير إلى حد كبير. لذلك، بدأت تصريحات رئيس الجمهورية، الباجي القائد السبسي، لصحيفة أجنبية، في الأيام الأخيرة، حول تأييده ضربات عسكرية موجهة إلى تنظيم داعش في ليبيا مفاجئة لبعضهم، فهي مختلفة إلى حد كبير مع تصريحاتٍ كانت قد صدرت له منذ أكثر من شهرين عن رفضه أي تدخل عسكري، لأنه سيكون كارثياً على تونس على حد قوله.
خارج هذا الموقف من إمكانية تدخل عسكري في ليبيا، كانت تونس الرسمية منذ تولى رباعي الحكم أكثر اعتدالاً وحفاظا على الحياد تجاه الفرقاء الليبيين. وربما كانت حكومة مهدي جمعة قد تعاملت مع الملف الليبي من زاوية أخرى، خيرت فيها إسناد جماعة الشرق، حتى عمدت إلى منع بعض الجهات المحسوبة على طرابلس من الدخول إلى التراب التونسي، وقيدت حركة بعض المقيمين منهم في تونس، مما عده بعضهم إجراءات تضييقية، تستهدف فريقاً لتناصر فريقاً آخر. والأرجح أن ذلك حدث تحت إملاءات قوى إقليمية عربية، لم تخف مناصرتها جماعة العسكري، خليفة حفتر، تحديداً.
لكن، يبدو أن هذه الاستفاقة كانت متأخرة شيئاً ما. ولذلك، يسعى الجميع في تونس إلى التدارك ولو مع تكاثر العثرات، فمسائل عديدة سويت في غيابهم، تم حسمها في الصخيرات، ففازت المغرب بشرف الدبلوماسية العربية النشطة التي ساعدت كثيراً على تقريب وجهات النظر بين هؤلاء الفرقاء الليبيين.
تغيرت مواقف الدبلوماسية في الأشهر القليلة الماضية، كما ذكرنا سابقا. وقد يكون لمغادرة وزير الخارجية التونسية السابق، الطيب البكوش، منصبه، إثر التحوير الحكومي الأخير أثر في حلحلة بعض المسائل التي كانت محل خلاف، خصوصاً مع حكومة طرابس و"المؤتمر الوطني العام" عموماً.
تزامنت هذه التعديلات المهمة مع بدايات المبادرات العملية المهمة التي أقدمت عليها حكومة الوفاق الوطني (حكومة فائز السراج) التي استعملت تونس قاعدة خلفية لقيادتها في بداية الأمر، ثم الترتيبات الدولية وحتى العملياتية لاحقاً. إذ يكفي أن نشير إلى الدور الذي لعبته تونس لوجستياً في تمكين القيادة الليبية الحالية من الوصول بحراً إلى أحد موانئ طرابلس، لتتخذّه، ولو إلى حين مقرا لها. وما كان ذلك ليحدث، لولا هذا "التواطؤ الإيجابي" الذي مكّن الحكومة من اختراق مساحةٍ، ليس في البحر ولا في الأرض فحسب، بل في التربة السياسية الليبية الوعرة بطبعها.
اتخذت الجهود الدبلوماسية التونسية مساراتٍ متعددة. كان أولها في اتجاه الاستفادة من هذه القاعدة الخلفية لجني ثمارها والتنسيق مع الدبلوماسية الغربية، للضغط على الفرقاء من أجل تثبيت الوضع وترسيخ أقدام حكومة السراج، من خلال حشد الاعتراف الدولي بها، والذي تسارع تدريجيا وبشكل غير متوقع، وأساسا من دول الاتحاد الأوروبي التي بدت معنية أكثر من غيرها بالأزمة الليبية، ففضاء الجوار الذي تحول معبراً مزعجاً للمهاجرين وطالبي اللجوء يمكن أن يكون مصدراً لتهديدات أمنية جدية.
أما المسار الثاني فهو استئناف الوساطة التونسية، لتقريب وجهات النظر، من خلال جهد
الدبلوماسية الموازية. ويبدو أن زعيم حركة النهضة، الشيخ راشد الغنوشي، قد لعب، ولا يزال، أدواراً مهمة، من خلال استثمار علاقاته الواسعة مع الأطراف الليبية، وخصوصاً الطيف الإسلامي، إذ يعرف الجميع أن العلاقة التي تربط الشيخ الغنوشي بالشيخ علي الصلابي متينة، وأن له الأثر الكبير على تليين موقفه (المخالف تماما لموقف المفتي الشيخ الصادق الغرياني). أصبح الشيخ علي الصلابي حاملاً مشروع المصالحة الوطنية على أسس حكومة الوفاق منطلقا. وما كان لحكومة السراج المنبثقة عن اتفاق السلام الذي وقعته الأطراف المغربية في مدينة الصخيرات المغربية خلال شهر ديسمبر/ كانون الأول 2015، أن تدخل مدينة طرابلس العصية، لولا احتضان تيار الإسلام السياسي لها. كان الأمر شبيهاً بانقلاب كبير، حدث داخل "القصر الاخواني". لم يكن الأمر هيناً لكل الأطراف. كان مجازفةً دقيقةً أقدم عليها فرقاء الطرف الواحد، وخصوصا أن معارضي هذا الاتفاق كانوا من جهات عديدة في واقع ليبي معقد، طغت عليه الانقسامية.
أما المسار الثالث، وهو الأخطر، والذي لم تبلور بعد كل ملامحه، فيعود إلى تصريحات رئيس الجمهورية الأخيرة والمتعلقة بضربات محتملة على داعش في ليبيا. رأى بعضهم في هذا الموقف تحولاً كليا عن مواقفه السابقة. ولكن، علينا أن نقر أن بين تلك التصريحات والتصريحات الحالية مسافة كبيرة، حدثت فيها أشياء عديدة، من شانها ألا تبرّر فقط تلك التعديلات، بل تفرضها، ولعل أهمها:
- الضرر الأمني الكبير الحاصل لتونس أساساً بعد غارة مصراطة التي كان من نتائجها عمليات بنقردان الإرهابية، في الأسبوع الأول من شهر مارس/ آذار 2016.
- التهديدات الحقيقية التي ظلت تستشعرها أوروبا بشكل متنام من خلال ارتفاع تدفق الهجرة المختلطة، والضغط على تونس، لتبدي تعاوناً أكبر.
- تعثر تصويت برلمان طبرق، المعترف به دوليا، لما يفوق عشر مرات وبشكل عبثي، على حكومة السراج التي امتلكت شرعية الضرورة والواقع، ما يجعل من هذا التصويت حقيقة من باب البروتوكولات الدولية لا غير. فلقد تم الاعتراف بهذه الحكومة بشكل متصاعد، من دون أن تعير لهذا التصويت أهمية تذكر، أو على الأقل لم ترتهن إليه.
لكل هذه الأسباب، بدا تغير الموقف التونسي من الأزمة الليبية مفهوماً. ولكن، هل نحن على مرحلة جديدة، ستفضي إلى أن يستتب فيها الأمر لحكومة الوفاق الوطني، من أجل بسط الهيمنة، وبشكل كامل على التراب الليبي. يبدو أننا ما زلنا بعيدين عن هذه المرحلة. ولكن، علينا أيضا أن نستحضر أن الغرب الذي دفع بهذه الحكومة لن يبقى مكتوف الأيدي زمناً طويلاً، إنه لن يرضى بحكومة "منطقة خضراء" أخرى في طرابلس، خصوصا وأن داعش يتمدّد بشكل مخيف.
ربحت طرابلس المعركة، هذه المرة، حينما لانت ومكنت حكومة الوفاق، ولو بشكل ملتو ومتردد في البداية من شبر أرض. ربما خسرت السلطة. ولكن، حازت على سمعة جيدة، وهي التي كانت تتهم بالتطرف، في حين بدت غريمتها "سلطة الشرق"، وهي المحسوبة على العلمانيين والليبراليين خصماً للشرعية والسلام ووحدة البلاد.
الضربة العسكرية التي أيدها الرئيس التونسي غير مستبعدة، لكنها لن تكون قريبا. هناك شروط موضوعية لم يتوفر بعضها، ونرجو أن تتفاداها البلاد أصلاً.
خارج هذا الموقف من إمكانية تدخل عسكري في ليبيا، كانت تونس الرسمية منذ تولى رباعي الحكم أكثر اعتدالاً وحفاظا على الحياد تجاه الفرقاء الليبيين. وربما كانت حكومة مهدي جمعة قد تعاملت مع الملف الليبي من زاوية أخرى، خيرت فيها إسناد جماعة الشرق، حتى عمدت إلى منع بعض الجهات المحسوبة على طرابلس من الدخول إلى التراب التونسي، وقيدت حركة بعض المقيمين منهم في تونس، مما عده بعضهم إجراءات تضييقية، تستهدف فريقاً لتناصر فريقاً آخر. والأرجح أن ذلك حدث تحت إملاءات قوى إقليمية عربية، لم تخف مناصرتها جماعة العسكري، خليفة حفتر، تحديداً.
لكن، يبدو أن هذه الاستفاقة كانت متأخرة شيئاً ما. ولذلك، يسعى الجميع في تونس إلى التدارك ولو مع تكاثر العثرات، فمسائل عديدة سويت في غيابهم، تم حسمها في الصخيرات، ففازت المغرب بشرف الدبلوماسية العربية النشطة التي ساعدت كثيراً على تقريب وجهات النظر بين هؤلاء الفرقاء الليبيين.
تغيرت مواقف الدبلوماسية في الأشهر القليلة الماضية، كما ذكرنا سابقا. وقد يكون لمغادرة وزير الخارجية التونسية السابق، الطيب البكوش، منصبه، إثر التحوير الحكومي الأخير أثر في حلحلة بعض المسائل التي كانت محل خلاف، خصوصاً مع حكومة طرابس و"المؤتمر الوطني العام" عموماً.
تزامنت هذه التعديلات المهمة مع بدايات المبادرات العملية المهمة التي أقدمت عليها حكومة الوفاق الوطني (حكومة فائز السراج) التي استعملت تونس قاعدة خلفية لقيادتها في بداية الأمر، ثم الترتيبات الدولية وحتى العملياتية لاحقاً. إذ يكفي أن نشير إلى الدور الذي لعبته تونس لوجستياً في تمكين القيادة الليبية الحالية من الوصول بحراً إلى أحد موانئ طرابلس، لتتخذّه، ولو إلى حين مقرا لها. وما كان ذلك ليحدث، لولا هذا "التواطؤ الإيجابي" الذي مكّن الحكومة من اختراق مساحةٍ، ليس في البحر ولا في الأرض فحسب، بل في التربة السياسية الليبية الوعرة بطبعها.
اتخذت الجهود الدبلوماسية التونسية مساراتٍ متعددة. كان أولها في اتجاه الاستفادة من هذه القاعدة الخلفية لجني ثمارها والتنسيق مع الدبلوماسية الغربية، للضغط على الفرقاء من أجل تثبيت الوضع وترسيخ أقدام حكومة السراج، من خلال حشد الاعتراف الدولي بها، والذي تسارع تدريجيا وبشكل غير متوقع، وأساسا من دول الاتحاد الأوروبي التي بدت معنية أكثر من غيرها بالأزمة الليبية، ففضاء الجوار الذي تحول معبراً مزعجاً للمهاجرين وطالبي اللجوء يمكن أن يكون مصدراً لتهديدات أمنية جدية.
أما المسار الثاني فهو استئناف الوساطة التونسية، لتقريب وجهات النظر، من خلال جهد
أما المسار الثالث، وهو الأخطر، والذي لم تبلور بعد كل ملامحه، فيعود إلى تصريحات رئيس الجمهورية الأخيرة والمتعلقة بضربات محتملة على داعش في ليبيا. رأى بعضهم في هذا الموقف تحولاً كليا عن مواقفه السابقة. ولكن، علينا أن نقر أن بين تلك التصريحات والتصريحات الحالية مسافة كبيرة، حدثت فيها أشياء عديدة، من شانها ألا تبرّر فقط تلك التعديلات، بل تفرضها، ولعل أهمها:
- الضرر الأمني الكبير الحاصل لتونس أساساً بعد غارة مصراطة التي كان من نتائجها عمليات بنقردان الإرهابية، في الأسبوع الأول من شهر مارس/ آذار 2016.
- التهديدات الحقيقية التي ظلت تستشعرها أوروبا بشكل متنام من خلال ارتفاع تدفق الهجرة المختلطة، والضغط على تونس، لتبدي تعاوناً أكبر.
- تعثر تصويت برلمان طبرق، المعترف به دوليا، لما يفوق عشر مرات وبشكل عبثي، على حكومة السراج التي امتلكت شرعية الضرورة والواقع، ما يجعل من هذا التصويت حقيقة من باب البروتوكولات الدولية لا غير. فلقد تم الاعتراف بهذه الحكومة بشكل متصاعد، من دون أن تعير لهذا التصويت أهمية تذكر، أو على الأقل لم ترتهن إليه.
لكل هذه الأسباب، بدا تغير الموقف التونسي من الأزمة الليبية مفهوماً. ولكن، هل نحن على مرحلة جديدة، ستفضي إلى أن يستتب فيها الأمر لحكومة الوفاق الوطني، من أجل بسط الهيمنة، وبشكل كامل على التراب الليبي. يبدو أننا ما زلنا بعيدين عن هذه المرحلة. ولكن، علينا أيضا أن نستحضر أن الغرب الذي دفع بهذه الحكومة لن يبقى مكتوف الأيدي زمناً طويلاً، إنه لن يرضى بحكومة "منطقة خضراء" أخرى في طرابلس، خصوصا وأن داعش يتمدّد بشكل مخيف.
ربحت طرابلس المعركة، هذه المرة، حينما لانت ومكنت حكومة الوفاق، ولو بشكل ملتو ومتردد في البداية من شبر أرض. ربما خسرت السلطة. ولكن، حازت على سمعة جيدة، وهي التي كانت تتهم بالتطرف، في حين بدت غريمتها "سلطة الشرق"، وهي المحسوبة على العلمانيين والليبراليين خصماً للشرعية والسلام ووحدة البلاد.
الضربة العسكرية التي أيدها الرئيس التونسي غير مستبعدة، لكنها لن تكون قريبا. هناك شروط موضوعية لم يتوفر بعضها، ونرجو أن تتفاداها البلاد أصلاً.