الحرب ضد داعش لن تكون الأخيرة

23 سبتمبر 2014

جنود أميركيون جنوب العراق أثناء عملية "عاصفة الصحراء"(24فبراير/1991/Getty)

+ الخط -

بدأت الولايات المتحدة الأميركية في تجييش الحلفاء والأتباع، لخوض حربها الجديدة/القديمة في منطقة الشرق العربي، ضد عدو متغير اسماً وشكلاً، ولكنه واحد من حيث الجوهر، ولا تبدو المعركة يسيرة وسهلة ضد تنظيم "داعش"، وإنما ستكون ككل الصراعات التي خاضتها الولايات المتحدة في الصومال وأفغانستان وعراق ما بعد صدام حسين، حرباً غير نظامية في منطقةٍ يعاد تشكيلها، حيث تتم استعادة النزعات العرقية والطائفية وتغذيتها. ومثلما تفعل داعش، من حيث سعيها إلى تغيير الجغرافيا السياسية والخارطة العرقية والسياسية في المنطقة، فإن الولايات المتحدة تهاجم، عن قصد، العلاقات الاجتماعية في منطقة المشرق العربي، وتحاول إعادة صياغتها، لكنها، في أثناء العملية، تساعد على إطلاق عمليات ذاتية التغذية، من التفكك الطائفي والاجتماعي.

ولا أحد ينكر أن الولايات المتحدة تمتلك تفوقاً عسكرياً تقليدياً هائلاً، دفعت هذه المقدرة خصومها من الجماعات والمنظمات، الموسومة بوصفها إرهابية، إلى محاربتها بطرق غير تقليدية، تجمع بين التقنيات الحديثة وأساليب حرب العصابات، وهو ما يفسر عجز القوات الأميركية، على الرغم من ضخامة قوتها، عن حسم حروبها المتعددة، وإنهاء خصومها بشكل دائم، سواء في أفغانستان، حيث ما زالت "طالبان" تشكل كابوساً فعلياً لقوات التحالف الدولي المرابطة هناك، أو للتنظيمات المقاتلة في العراق التي ظهرت إثر إطاحة نظام صدام حسين، والتي يشكل تنظيم داعش امتداداً عقدياً وعسكرياً لها. لقد حاولت العسكرية الأميركية تحقيق انتصارها، بإنشاء قوات متعاونة محلية، وتدريبها (ممثلة في الصحوات)، أو في الجيش العراقي نفسه الذي عجز عن أن يكون جيشاً وطنياً بالفعل، يوحد البلد. وهذا ما يفسر انهياره عند أول مواجهة فعلية مع داعش، وانسحابه من مناطق واسعة في وقت قياسي. ويعود هذا الفشل الواضح إلى إعادة الصياغة التي قام بها الغازي الأميركي للعراق وإلى اعتماده على سياسة استخدام الأقليات العرقية (الأكراد) والجماعات الطائفية (الشيعة) في إطار منطق استعماري معروف "فرق تسد"، وهو ما أطلق عليه عالم الإنثروبولوجيا، فيليب بورجوا "انتهازية التحرير العرقي"، وهو نمط من المعالجة العسكرية والسياسية، أفضت إلى نقيض الغاية التي ترمي إليها، حيث أدت إلى تكريس مزيد من الفوضى والشحن الطائفي والاقتتال الداخلي، عوضاً عن الاستقرار المنشود.

لقد استهدفت الحرب الأميركية ضد العراق، في نسختها الثانية 2003، تحطيم البنى الاجتماعية التقليدية، وضرب منظومة التعايش وتوظيف المنطق الطائفي والعرقي، من أجل إعادة صياغة العلاقات الاجتماعية، ولكنها، في غالب الوقت، كانت تنجز عملية الهدم، من دون أن تعيد البناء، مسببة انهيار منظومة القيم الاجتماعية، وممزقة روابط التكافل والتحكم الاجتماعي الطوعي، ما أفضى إلى انتشار الفوضى، وانعدام الانسجام الاجتماعي، وضرب الوحدة الوطنية في أساسها، ونعني به منطق التعايش السلمي الذي ترسخ قروناً طويلة. واليوم، تحاول الولايات المتحدة تعبئة الجهود من أجل شن حربٍ على خصمٍ، هو نتاج الظرف التاريخي الذي أسهم الغزو الأميركي في خلقه، بل وضخ الدماء المتجددة فيه، عبر سياسات حمقاء، تجلت في دعم جهاتٍ على حساب أخرى، وهي في معركتها، اليوم، حتى وإن تمكنت من ضرب البنية العسكرية لداعش، واستطاعت تدمير معظمها، وتشتيت مكوناتها، فإنها لن تستطيع منع ظهور نموذج مماثلٍ، يستمد عنفوانه من مظلوميةٍ، تشعر بها قطاعات واسعة من شعوب المنطقة.

إن الحرب ضد داعش، وإن بدت قتالاً ضد قوى مدفوعة إيديولوجياً، وجماعات أصولية، تتبنى فلسفات أخلاقية ساذجة، بدلاً من تصور حقيقي لمعنى الدولة، أو نظام الحكم المنشود، إلا أنها تخفي في جوهرها نزوعاً للتمرد لدى فئات شعبيةٍ واسعةٍ، مَثّلَ الغزو الأميركي، وما تبعه من تدمير منهجي لبناها الاجتماعية، تحطيماً لآمالها في التطور الاجتماعي والسياسي. ولهذا، المعركة، اليوم، ضد تنظيم داعش أعقد من أن يتم اختصارها في حربٍ ضد جماعة إرهابيةٍ، تهدد السلم العالمي، كما تروّج ذلك البروباغندا الأميركية، وكل من شايعها، وإنما هي تعبير فعلي عن أنماطٍ من المقاومات المحلية التي تتشكل، بصورة مستمرة، حول مبادئ عامة وهويات ضيقة، تنازع من أجل البقاء والاستمرارية، في عالم يقوم على نمط من الإقصاء والإلغاء.

خلاصة القول إنه بإمكان الحرب الأميركية ضد داعش أن تبدأ، ولكن، لا يمكن أن تنتهي كما لم تنتهِ حروب أخرى كثيرة قبلها. وكما قال تشرشل يوماً "على السياسي الذي يستسلم لحمى الحرب أن يدرك أنه ما إن تعطى الإشارة للحرب، لن يكون المسيطر على السياسة، لكنه سيكون عبد الحوادث غير المتنبَأ بها، وغير الخاضعة للسيطرة"، لأن القوة الصلبة قد تحسم الهيمنة على الأرض، لكنها لن تخلق واقعاً سياسياً ملائماً، وقادراً على الاستمرار. فقرار الحرب، وإن كان امتدادا للسياسة، إلا أنه لن يصلح ما أفسدته خيارات كبرى، اعتمدتها الولايات المتحدة، منذ لحظة اتخاذ قرار غزو العراق وإطاحة نظام صدام حسين، أما الدول المجاورة، ومهما حاولت الاحتماء بالظل الأميركي، فإن الحريق الطائفي ورقعة الفوضى ستلتهم أجزاء منها، في ظل أنظمة عاجزة عن تصريف أزماتها ديمقراطياً، ولازالت تعامل شعوبها بوصفها رعايا تعيش على الهبات والأعطيات من أهل الحكم، من دون تقدير خطورة ما يعتمل في المجتمع، فلن تستطيع دول تحكمها أنظمة عسكرية، أو مدنية مغلقة، أن تجد لها سبيلاً للوقاية من الفوضى المقبلة، إلا عبر بسط الحريات وإطلاق المجال أمام نشوء أنظمة ديمقراطية تعددية، تتمكن من خلال قواها الحية من حماية ذاتها من كل أشكال العنف، أو الغلو السياسي والعقدي.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.