الحاجة الدائمة إلى عدو

29 مايو 2018

(عصمت داوستاشي)

+ الخط -
يتوقع الفرنسي، بيار كونيسا، في كتابه "صنع العدو ـ كيف تقتل بضمير مرتاح"، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أن يشكل "صنع العدو خلال العقود المقبلة قطاع إنتاج ضخماً". فمنذ انتهاء الحرب الباردة، أربك غياب العدو (النمطي) السوفياتي الغرب. ومنذ ذلك الحين، يحاول الغرب صناعة عدو يناسبه، من دون أن ينجح في ذلك، فـ "الدول المارقة" و"الحرب على الإرهاب" ليست بالمواصفات الملائمة والعدو النموذجي الذي شكله الاتحاد السوفياتي السابق.
اليوم، وبعد حوالي ثلاثة عقود على انهيار جدار برلين، وانتهاء الحرب الباردة، ما زال الكلام البليغ الذي قاله ألكسندر أرباتوف، المستشار الدبلوماسي لميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفياتي، مخاطباً الغرب "سنقدم لكم أسوأ خدمة، سنحرمكم من العدو"، ما زال يفعل فعله في تخبط الغرب في البحث عن عدو ملائم، بعد خسارته العدو الأمثل الذي شكله الاتحاد السوفياتي في أثناء الحرب الباردة.
الحروب هي الصانع الأكبر للتاريخ الوطني للدول، كونها تشكل أحياناً قطيعة كبرى مع ما قبلها. وبصفتها هذه، هي حدث يدعو إلى الفخر، وتشتغل عاملاً يوّحد الجميع ضد الخطر الخارجي. بذلك تكون الحرب بين الدول ترخيصاً ممنوحاً شرعاً لقتل أناسٍ لا نعرفهم حق المعرفة، بوصفنا أصحاب حق ووصفهم أصحاب باطل، فالحرب تحتاج هذه الثنائية الحادّة في التناقض الذي يفتح باب القتل المتبادل. ولأن العدو يشكل الصمغ الذي يوحد المجتمع في
الأزمات الكبرى، فهو يلبي حاجة اجتماعية، ويشكل جزءاً من متخيل جمعي خاص بكل جماعة (الوطنية، المحلية، الدينية، الطائفية، العرقية). ولأن العدو يقدم خدمات عديدة للحياة الدولية، بإعادة تنظيمها وفق الاصطفافات التي يحددها التناقض بين الدول، وتحديد الصديق من العدو، لذلك كل دولةٍ ستستمر في إنتاج عدو يناسبها في اللحظة التاريخية المحدّدة. تخترق عملية بناء العدو المجتمع، بوصفها عملية اجتماعية وسياسية وثقافية، تساهم فيها النخب الثقافية بفعالية كبيرة. تكتمل صناعة العدو بتوظيف نظرية المؤامرة، لإعطاء العدو مزيداً من المساحيق الجمالية، بوصفه مكملاً لصورة الذات. وقد باتت هذه النظرية مؤسسة تجارية يعطيها الإنترنت منبراً ذا بعد عالمي. إنها وباءٌ مستوطنٌ كبير، شبيه بأوبئة عالم الحيوان، يولد في زاويةٍ من الكوكب، وينتشر بسرعة عبر الإنترنت، ويتحول إلى فيروس متحول، كما كتب كونيسا.
شكلت الحروب الأهلية والمحلية، في العقود الثلاثة المنصرمة، نموذجاً لصناعة العدو الداخلي والخارجي في كل من إفريقيا وآسيا، ولذلك يتوقع كونيسا أن يترافق الطلب الكبير على إنتاج العدو، مع تزايد الطلب على الحروب الأهلية التي تجعل من المذبحة سلاح حرب، في السنوات المقبلة. حيث تشكل القارة الإفريقية، وبلدان الشرق الأوسط العربي، وبلدان آسيا الوسطى سابقاً، ومناطق الحدود الجيوسياسية، مواقع هذه الحروب. حيث تعمل كل جماعةٍ على احتكار أمنها الخاص، من خلال مليشياتها الخاصة، كما تشكل هذه المناطق خزاناتٍ لا تنضب لهذا النوع من الحروب. وإذا كانت الحروب بين الدول ترخيصاً ممنوحاً شرعاً لقتل أناسٍ لا نعرفهم، من منطق نحن على حق وهم على باطل، فإن الحروب الأهلية ترخيصٌ لقتل أناسٍ نعرفهم خير معرفة. حيث يكون العدو في الحرب الأهلية حميماً (الجار السابق، زميل المدرسة أو الجامعة السابق، الصديق السابق). ويصبح العنف سلسلةً متصلةً، تبدأ في فترة السلام التي تسبق الحرب بشيطنة الآخر المحلي، أو تصغيره حتى يصبح أقل شأناً منا، وبالتالي يستحق أن نسحقه. وتشكل الحرب ذروةً له، من خلال محاولة إبادة الآخر بالقتل، قبل أن يقتلنا هو، لأننا لا نستطيع أن نتعايش معه، إما "نحن" أو "هم" الإلغائي. وهكذا تستمر العملية الإلغائية، حتى بعد توقف القتال، من خلال القمع الذي تمارسه الجهة المنتصرة بوصف سياسة المنتصر تقوم على إلغاء الآخر واضطهاده، لأن من لم نستطع إبادته تماماً يتحوّل من عدو معلن في حالة الحرب إلى عدو خفي، وهذا ما يجعله عدواً أخطر، حسب نظرية المؤامرة، ما يستدعي سحقه في الحرب والسلم.

لا توجد خطوط للجبهة في الحروب الأهلية التي تشن من دون إعلان مسبق، فالجبهة تخترق المجتمع والنفوس والجغرافيا، ويتم دفع الهويات الجزئية والمناطقية والدينية إلى أقصى حالاتها الإلغائية العنيفة، حيث تصبح المجازر ردات فعل استباقية معممة ضد العدو الداخلي الذي سيذبحني، إذا لم تسبقه إلى ذلك. يأتي انتقال المجتمع من الحالة السلمية إلى حالة الحرب الأهلية من خلال تحولاتٍ عميقةٍ في المجتمع، تجعل التعايش بين الفئات أو الطوائف أو الطبقات الاجتماعية غير ممكن، وهي ما تحصل عادةً عندما تستأثر فئات بعوائد المجتمع، وتمنع الآخرين منه. وغالباً ما تكون فئوية السلطة الحاكمة، وآليات حكمها وتحكمها الإلغائية، السبب الأساسي المفجّر لهذه الصراعات التي تصل إلى مستوى الحرب الأهلية المدمرة. والسطح الراكد الذي تظهر عليه البلاد قبل الذهاب إلى الحرب الأهلية ليس مؤشراً على استقرار البلد، بقدر ما هو سطح كاذب، لأن المفاعيل العميقة تجري تحت هذا السطح الراكد. ولنا في تجارب الربيع العربي نموذج لذلك، سواء في الدول التي ذهبت بعيداً في حرب أهليةٍ، كحالات سورية واليمن وليبيا، أو التي لم تصل فيها الصدامات إلى هذه الحدود، نموذج مصر وتونس. وفي جميع الحالات، لم تكن هناك أدلة تقول إن هذه البلدان ذاهبة باتجاه الانفجار، على الرغم من أن عوامل الانفجار فيها موجودة منذ سنوات طويلة. ولم يكن احتمال الحرب الأهلية وارداً في سيناريوهات مستقبلها. ولكن عندما تنفجر الأوضاع، من الصعب التحكّم بمسارها، لأن عشرات العوامل التي تعمل على دفعها في اتجاهاتٍ مختلفة، ما يجعل عملية صناعة العدو من أسرع العمليات في الصراع الأهلي، ويصبح القتل مهنةً يتم تأجيرها لمن يرغب، طالما الأيادي العابثة في أوضاع هذه البلاد أكثر من أن تُحصى. وأسوأ ما في الحروب الأهلية أن جروحها العميقة تبقى تفعل فعلها حتى بعد انتهائها، ولكن ما يحصل في هذه الحالة، ليس انتهاء الحرب الأهلية، بل نزع مظاهرها المسلحة، لكنها تستمر بوسائل أخرى، والخنادق نفسها تبقى قائمةً بين الأطراف المتصارعة.
D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.