11 نوفمبر 2024
التونسيون والعدالة الانتقالية والتاريخ
أثارت الحلقة التاسعة من جلسات الاستماع التي تنظمها هيئة الحقيقة والكرامة في تونس ردود أفعال مختلفة عما سبقها، وهي التي خصصت في جلها لشهادات مناضلين عاشوا فصولاً متعددة من معركة التحرير الوطني، والتي خاضوا فيه صراعا مسلحاً ضد الاستعمار الفرنسي، وصولا إلى مرحلة الاستقلال المعلن في 20 مارس/ آذار 1956، وقد تزامنت هذه الحلقة مع احتفال التونسيين بالذكرى الواحدة والستين للاستقلال.
كانت كل الحلقات تثير ردود أفعال عنيفة، تصدر عادة عن مؤيدي النظام القديم، وأساسا نظام بن علي الذي رزحت البلاد تحت استبداده ما يناهز ربع قرن. تكشف تلك الشهادات عموما عن جملة الانتهاكات الفظيعة التي مارسها هذا النظام ضد معارضيه، وهم في جلهم من النشطاء السياسيين ذوي التوجهات المعارضة المختلفة، وخصوصا الإسلامية واليسارية منها، فضلا على نشطاء آخرين، ليس لهم انتماء سياسي، على غرار النقابيين أو المثقفين والمستقلين، على غرار نشطاء حرية الإنترنت، وغيرهم من المواطنين البسطاء الذين سلبت أموالهم أو انتزعت منهم ممتلكاتهم، لأسبابٍ عديدة، تبدو في مواضع عدة عبثية وغريبة.
تقدم ردود الأفعال هذه الصادرة عموما عن أنصار النظام المخلوع ذرائع متعدّدة، فمنها من يرى أنها شهادات محرّفة، ومنها من يرى أنها شهادات تخدم خصماً سياسياً بعينه (ويقصدون حركة النهضة تحديدا)، ومنها من يعتبر أنها "تذكي نار الفتنة" في مجتمع ينقسم ويتشظى بخطىً حثيثة. وقد وصل الأمر بهؤلاء إلى حد رفع الأمر إلى القضاء في مناسبات عديدة، مطالبين إياه بوقف بث هذه الجلسات على قناة التلفزة الوطنية، أو غيرها، نظرا "للضرر البالغ الذي أحدثته بالسلم الأهلي"، على حد رأيهم، وقد قادت هذه المبادرة محامية ترأس حاليا حزبا يدّعي أنه الأكثر وفاءً لبن علي، وقد كانت قبل الثورة أحد رموز البروغاندا لهذا النظام، غير أن الموجة الأخيرة التي رافقت الجلسة المخصصة لسياقات الانتهاكات التي رافقت معركة التحرير والاستقلال كانت غير مسبوقة، من حيث اتساع حجمها ونوعية ردود الأفعال، وكذلك ملامح الذين دخلوا على الخط فيها، وحجم التعبئة التي أنجزوها.
صدرت ردود الأفعال في هذه الموجة الأخيرة عن أنصار النظام السابق من البورقيبيين،
لتتجاوزهم فيما بعد تدريجيا، وتشمل "الدساترة" أو التجمعيين والندائيين (تسميات متعدّدة للحزب الدي حكم البلاد بعد الاستقلال، وتناسلت منه عدة أحزاب حالية)، غير أنها ضمت لاحقا مؤرخين جامعيين ذوي الميولات التجمعية (التجمع الدستوري الديمقراطي، حزب بن علي) المفضوحة، والتي بعرفها أهل الجماعة العلمية ذاتها، بل لقد اشتغل بعضٌ منهم مستشارين وموظفين كبارا في عهد الرئيس المخلوع بن علي.
صدرت هذه المواقف في موضوعٍ يبدو أنه شكل، سنوات طويلة، "محرّما"، فالكتب المدرسية التي تتلقاها الناشئة، فضلا عن الإعلام العمومي، وغيرها من أجهزة الدولة الايديولوجية، كانت تتحدث، خلال عقود، عن '"الفتنية اليوسفية"، وتسكت، في الآن نفسه، عن فصولٍ عديدةٍ مريرةٍ، تعلقت باغتيال صالح بن يوسف، وغيره من رموز النضال الوطني (خاصة شقه العروبي)، وموجات التعذيب الرهيب التي عرفتها البلاد إثر هذا الانقسام الحاد في نخبة الاستقلال. قدّمت الهيئة الفرصة لمن يعتبرون أنفسهم ضحايا، ليدلوا بشهاداتٍ بعد أن أودعوا ملفاتهم لديها، ولا أعتقد أن الشق الآخر في هذه "الفتنة"، والذي انتصر وقاد البلاد، يعتبر نفسه ضحيةً أو قدم ملفات أصلا، وربما تؤكد جل الشهادات والوثائق أن عديدين منهم كوفئوا في مقابل ما اقترفت أيديهم، فوزعت عليهم الضيعات، وعين معظمهم في مراكز سامية في جهاز الدولة الفتية، واستفادوا من جملة الامتيازات المتاحة آنذاك، لعل أهمها احتكارهم صفة المناضل، في حين عد خصومهم "خونة"، وهي الصفة التي حرص بعضٌ ممن قدموا شهاداتهم على أن تسحب منهم، وذلك ما يشكل الحد الأدنى من رد الاعتبار.
وبقطع النظر عن صحة هذه الروايات، والهيئة ليست هيئة علمية، حتى تكتب النتائج وتتثبت في الوقائع، وتلك مهمة المؤرخين الذين منحتهم الهيئة فرصةً ذهبيةً نادرة لمزيد التحرّي والتقصّي، فإن ردود الفعل تلك لا تجد أي وجاهةٍ في اعتقادنا سوى تعطيل مسار العدالة الانتقالية والالتفاف عليها لوأد الحقيقة.
يعتقد بعضهم أن إعادة زيارة التاريخ في تونس بهذا الشكل إما ستهدد مجدّدا الوحدة الوطنية في بلدٍ، كل المؤشرات تشي بأنه قاب قوسين أو أدنى من التشظي، فكأن لا شيء يجمعهم بعد
الثورة. مجتمع منقسم حتى حول العلم والنشيد الوطني والتاريخ والماضي والانتماء، فما بالك بالمستقبل. ويعتقد آخرون أن خلخلة عماد البناء الوطني بورقيبة قد تؤدي إلى انهيار البناء على الجميع، وخصوصا أن بعضهم يتوهم أن المستفيد الأكبر هو حركة النهضة، وأن النمط المجتمعي الذي بناه بورقيبة سيكون محل تشكيك، في سياق من الهشاشة الفكرية التي قد تعصف بالمنجز الحداثي. لذلك، سارع عديد منهم إلى ضريحه، للتيمن ببركاته وطلب ستره وحفظه.
كما أن هذه الخشية قد تكون إحدى استراتيجيات إحراج "النهضة"، ودفعها إلى مواقع الدفاع مجدّدا، وهي التي أتت أكلها، فلقد بدا لافتا من احتفالات "النهضة" بمناسبة عيد الاستقلال أن صور بورقيبة تظهر لأول مرة في مقرات "النهضة"، في سابقةٍ محيرة فعلا، قد تكون نابعة إما من مراجعات جريئة أو من خوفها الشديد من تهمة "اللاحداثة"، وهي تهمة تضاهي، في قسوتها وعواقبها، تهم التكفير التي تنشرها التيارات الدينية المتشدّدة.
لا يرغب بعض التونسيين في النظر مجدّدا في وجوههم، فمرآة التاريخ قد تكشف لهم عن كدمات ورضوض عديدة، وحتى الندوب الغائرة، وهي التي ألفوها منمقةً مزركشة بكثيرٍ من مساحيق الأسواق الموازية.
كانت كل الحلقات تثير ردود أفعال عنيفة، تصدر عادة عن مؤيدي النظام القديم، وأساسا نظام بن علي الذي رزحت البلاد تحت استبداده ما يناهز ربع قرن. تكشف تلك الشهادات عموما عن جملة الانتهاكات الفظيعة التي مارسها هذا النظام ضد معارضيه، وهم في جلهم من النشطاء السياسيين ذوي التوجهات المعارضة المختلفة، وخصوصا الإسلامية واليسارية منها، فضلا على نشطاء آخرين، ليس لهم انتماء سياسي، على غرار النقابيين أو المثقفين والمستقلين، على غرار نشطاء حرية الإنترنت، وغيرهم من المواطنين البسطاء الذين سلبت أموالهم أو انتزعت منهم ممتلكاتهم، لأسبابٍ عديدة، تبدو في مواضع عدة عبثية وغريبة.
تقدم ردود الأفعال هذه الصادرة عموما عن أنصار النظام المخلوع ذرائع متعدّدة، فمنها من يرى أنها شهادات محرّفة، ومنها من يرى أنها شهادات تخدم خصماً سياسياً بعينه (ويقصدون حركة النهضة تحديدا)، ومنها من يعتبر أنها "تذكي نار الفتنة" في مجتمع ينقسم ويتشظى بخطىً حثيثة. وقد وصل الأمر بهؤلاء إلى حد رفع الأمر إلى القضاء في مناسبات عديدة، مطالبين إياه بوقف بث هذه الجلسات على قناة التلفزة الوطنية، أو غيرها، نظرا "للضرر البالغ الذي أحدثته بالسلم الأهلي"، على حد رأيهم، وقد قادت هذه المبادرة محامية ترأس حاليا حزبا يدّعي أنه الأكثر وفاءً لبن علي، وقد كانت قبل الثورة أحد رموز البروغاندا لهذا النظام، غير أن الموجة الأخيرة التي رافقت الجلسة المخصصة لسياقات الانتهاكات التي رافقت معركة التحرير والاستقلال كانت غير مسبوقة، من حيث اتساع حجمها ونوعية ردود الأفعال، وكذلك ملامح الذين دخلوا على الخط فيها، وحجم التعبئة التي أنجزوها.
صدرت ردود الأفعال في هذه الموجة الأخيرة عن أنصار النظام السابق من البورقيبيين،
صدرت هذه المواقف في موضوعٍ يبدو أنه شكل، سنوات طويلة، "محرّما"، فالكتب المدرسية التي تتلقاها الناشئة، فضلا عن الإعلام العمومي، وغيرها من أجهزة الدولة الايديولوجية، كانت تتحدث، خلال عقود، عن '"الفتنية اليوسفية"، وتسكت، في الآن نفسه، عن فصولٍ عديدةٍ مريرةٍ، تعلقت باغتيال صالح بن يوسف، وغيره من رموز النضال الوطني (خاصة شقه العروبي)، وموجات التعذيب الرهيب التي عرفتها البلاد إثر هذا الانقسام الحاد في نخبة الاستقلال. قدّمت الهيئة الفرصة لمن يعتبرون أنفسهم ضحايا، ليدلوا بشهاداتٍ بعد أن أودعوا ملفاتهم لديها، ولا أعتقد أن الشق الآخر في هذه "الفتنة"، والذي انتصر وقاد البلاد، يعتبر نفسه ضحيةً أو قدم ملفات أصلا، وربما تؤكد جل الشهادات والوثائق أن عديدين منهم كوفئوا في مقابل ما اقترفت أيديهم، فوزعت عليهم الضيعات، وعين معظمهم في مراكز سامية في جهاز الدولة الفتية، واستفادوا من جملة الامتيازات المتاحة آنذاك، لعل أهمها احتكارهم صفة المناضل، في حين عد خصومهم "خونة"، وهي الصفة التي حرص بعضٌ ممن قدموا شهاداتهم على أن تسحب منهم، وذلك ما يشكل الحد الأدنى من رد الاعتبار.
وبقطع النظر عن صحة هذه الروايات، والهيئة ليست هيئة علمية، حتى تكتب النتائج وتتثبت في الوقائع، وتلك مهمة المؤرخين الذين منحتهم الهيئة فرصةً ذهبيةً نادرة لمزيد التحرّي والتقصّي، فإن ردود الفعل تلك لا تجد أي وجاهةٍ في اعتقادنا سوى تعطيل مسار العدالة الانتقالية والالتفاف عليها لوأد الحقيقة.
يعتقد بعضهم أن إعادة زيارة التاريخ في تونس بهذا الشكل إما ستهدد مجدّدا الوحدة الوطنية في بلدٍ، كل المؤشرات تشي بأنه قاب قوسين أو أدنى من التشظي، فكأن لا شيء يجمعهم بعد
كما أن هذه الخشية قد تكون إحدى استراتيجيات إحراج "النهضة"، ودفعها إلى مواقع الدفاع مجدّدا، وهي التي أتت أكلها، فلقد بدا لافتا من احتفالات "النهضة" بمناسبة عيد الاستقلال أن صور بورقيبة تظهر لأول مرة في مقرات "النهضة"، في سابقةٍ محيرة فعلا، قد تكون نابعة إما من مراجعات جريئة أو من خوفها الشديد من تهمة "اللاحداثة"، وهي تهمة تضاهي، في قسوتها وعواقبها، تهم التكفير التي تنشرها التيارات الدينية المتشدّدة.
لا يرغب بعض التونسيين في النظر مجدّدا في وجوههم، فمرآة التاريخ قد تكشف لهم عن كدمات ورضوض عديدة، وحتى الندوب الغائرة، وهي التي ألفوها منمقةً مزركشة بكثيرٍ من مساحيق الأسواق الموازية.