11 نوفمبر 2024
التنشئة السياسيّة... خيبات تحديات وأحلام
كانت الحركات الطلابية العربية الحدائق السرية للتسييس، وتبنّت جلّها النظريات الكبرى منهجاً للتغيير. وكان ذلك يتم، عادةً، تحت لافتة "العنف الثوري"، وهو عنفٌ يتم التشريع له نظرياً، فيصبح عنفاً محموداً. كانت مقولة الصراع الطبقي، والذي لم يُخَض مطلقاً ليتحوّل إلى مجرد كراهية وحقد، يُعبَّر عنهما في مفردات خطابٍ ذي منسوبٍ متغيّر، تَحشُد أجيالَ الشباب المتعلّم من المُفْقَرين والمهمّشين، وتُهيّؤهم لجبهات نضالٍ لم تُفتح إلا قليلاً. حين يتميّع الصراع الطبقي، ويستعصي الفرز الطبقي نظرياً، أو عاطفياً، تكون مقاومة الأنظمة الرجعية حجةً جاهزةً تعوّض، أو تعاضد، الأولى.
ومن هذين التبريرين، تناسلت مئات "النظرات الثورية" التي فرّقت الطلاب والشباب إلى تنظيمات وشِيَعٍ عدّة. وبرز من الرموز والقيادات، أحياناً، ما يفوق القواعد. يكفي أن تؤخّر كلمة، أو تقدّمها حتى تقف عن حدود مربعات الخارطة التنظيمية المتشعّبة لحركات سياسية، ما أن تتستر، حتى تكشف، في ما يشبه أحياناً لعبة "الغميضة".
استقبلت الجامعات العربية، بعد تلك الموجة الأولى، موجات أخرى من القوميين والإسلاميين، ولكن، ظلت آليات التنشئة السياسية نفسها، وجرى تبديلٌ مجرّدٌ في الخطاب والمفردات. نتذكر، في تونس، ونحن من طلاب الثمانينات، أن مفردتي (ال)وطنية و(ال) ديموقراطية في صيغ التعريف، أو النكرة، أنجبت عشرات التنظيمات، أما أولوية الديموقراطية عن الوطنية، أو العكس، فإنها فتحت جدلاً نظرياً، وعملياً، قامت الثورة وهو لا يزال محتدماً، وهو نقاش يحيل إلى قراءات متعدّدة "لما يقع"، تحدّد، بدورها، مواقع ممّا وقع أيضاً...
كنا نتحلّق، ساعات طويلة، ونعود من غد لاستئناف النقاش ذاته حول المفردة نفسها. أعترف، الآن، أن ذلك النقاش لم يكن كلّه عقيماً، بل فتح لنا شهية التخيُّل السياسي ونَهَمِ القراءة بلا حدّ، وفتح أعيننا على ما كنّا لندركه لو لم تجرّنا السياسة إلى تلك العوالم، حتى ولو كانت ممالك في السحاب والغيوم.
ومن هذين التبريرين، تناسلت مئات "النظرات الثورية" التي فرّقت الطلاب والشباب إلى تنظيمات وشِيَعٍ عدّة. وبرز من الرموز والقيادات، أحياناً، ما يفوق القواعد. يكفي أن تؤخّر كلمة، أو تقدّمها حتى تقف عن حدود مربعات الخارطة التنظيمية المتشعّبة لحركات سياسية، ما أن تتستر، حتى تكشف، في ما يشبه أحياناً لعبة "الغميضة".
استقبلت الجامعات العربية، بعد تلك الموجة الأولى، موجات أخرى من القوميين والإسلاميين، ولكن، ظلت آليات التنشئة السياسية نفسها، وجرى تبديلٌ مجرّدٌ في الخطاب والمفردات. نتذكر، في تونس، ونحن من طلاب الثمانينات، أن مفردتي (ال)وطنية و(ال) ديموقراطية في صيغ التعريف، أو النكرة، أنجبت عشرات التنظيمات، أما أولوية الديموقراطية عن الوطنية، أو العكس، فإنها فتحت جدلاً نظرياً، وعملياً، قامت الثورة وهو لا يزال محتدماً، وهو نقاش يحيل إلى قراءات متعدّدة "لما يقع"، تحدّد، بدورها، مواقع ممّا وقع أيضاً...
كنا نتحلّق، ساعات طويلة، ونعود من غد لاستئناف النقاش ذاته حول المفردة نفسها. أعترف، الآن، أن ذلك النقاش لم يكن كلّه عقيماً، بل فتح لنا شهية التخيُّل السياسي ونَهَمِ القراءة بلا حدّ، وفتح أعيننا على ما كنّا لندركه لو لم تجرّنا السياسة إلى تلك العوالم، حتى ولو كانت ممالك في السحاب والغيوم.
فعلاً، كان الواقع شيئاً آخر. كانت تلك المفردات، التي يسيل الدم من أجلها أحياناً، حبيسة جدران الجامعة. ما إن تستقلّ الحافلة لتغادر الجامعة عائداً إلى حيّك، أو قريتك، حتى يستقبلك عالم آخر، مفرداته لا علاقة لها بالخطاب، تعمره كائنات حيّة تحرّكها دوافع وأشياء أخرى، هي قيم ومعتقدات وممارسات مغايرة، لكنها في كل الحالات ليست مفرداتنا التي نصارع بها، ونتصارع حولها. مارس هذا المنوال من التنشئة السياسية جاذبيته، على ما يزيد عن ثلاثة أجيال متعاقبة، تربّت، بشكل أو بآخر، على "الحكايات الكبرى"، بما فيها من حلم وتشويق وأساطير كثيرة.
ظلّت تلك الحركات ضعيفة الصلة بحاضنتها الشعبية، لطابعها النخبوي، ولهجانة أصولها الاجتماعية. تعبّر روايات نجيب محفوظ وعبد الرحمن مجيد الربيعي والطيّب صالح وعبد الرحمن منيف، وغيرهم، عن تلك الخيبات، ولكن، في مناخات مختلفة. عموماً، ظلّت البورجوازيات الصغرى في بلدان عربية كثيرة، منحدرة، تعسفاً، من العمق البدوي، أو الريفي، عاجزة عن إيجاد بيئة خاصة بها، تكوّن الأرض التي منها تخوض معاركها. فجافت منحدراتها وجافتها المدن، عقاباً على ذلك التنكّر. في قارة بعيدة عنّا، تمنحنا أميركا اللاتينية تجربة أخرى في التنشئة السياسية، فالمزارعون وفقراء المدن و"البدون أرض"، وغيرهم من المهمّشين، خاضوا، في حالات كثيرة، نضالاتهم الاجتماعية والسياسية بشكل مباشر. فكانت مفردات أدبياتهم ذات واقعية حيّة، في حين كانت أجيال الشباب العربي من خريجي الجامعات تخوض نضالات بالوكالة، في شكل تفويض لم يُستَشر حوله المعنيون. فنشأت بعض تلك الحركات مجزوزة الجذور.
كانت الإخفاقات السياسية متعدّدة، بعضها يعود إلى نمط التنشئة السياسية تلك، وبعض آخر يعود إلى "طبيعة النُظُم" التي حكمتنا. ولكن، على الرغم من ذلك، غنمت مجتمعات عربية، عرفت حركات طلابية نشطة، من تلك التنشئة، وبشكل متفاوت نُخَبٌ شكلت لَبِناتِ مجتمعٍ مدنيّ صلب وفِرَق قادة مهيأة للحكم، لو تتاح لها الفرصة.
في تونس بعد الثورة، وبعدما باحت صناديق الاقتراع بنتائجها في الانتخابات الأولى (23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011)، كانت الطبقة السياسية الجديدة مشكّلة، تقريباً، من تلك الأجيال المتعاقبة بالذات. بينها ذاكرة مشتركة ومعرفة مباشرة. ولكن، بقدر ما يمكن لتلك العوامل أن تشكل أرضية ملائمة للعمل الوطني المشترك، فإن المخاطر تظل قائمة، ولعلّ حالة الاستقطاب الإيديولوجي، و"استئناف المعارك"، التي لم تحسمها ساحات الجامعة، وخصوصاً لأنها تعطلت بسبب إحكام نظام بن على قبضته على الجامعة، وإلغاء تعبيرات النشاط السياسي، هي من نتائج تلك التنشئة الاجتماعية التي فيها كثير من قيم التنافس.
ستظلّ الجامعة حاضنة التنشئة السياسية، ولكن، لن تكون، من هنا فصاعداً، الوحيدة. فمجالات التنشئة السياسية، بعد الثورة، غدت متعددةً في فضاءٍ عام يتمدّد إلى ما لا نهاية: أحزاب، جمعيات، نوادي وغيرها من حلقات التنشئة السياسية. ولكن، لن تُحَلّ المعضلة، ما لم يُعَد النظر في قيم التنشئة السياسية تلك، بما يدعم فكرة المشترك السياسي واستبعاد مفردات الإقصاء والعنف نهائياً، بما فيه ما كنّا نعدّه عنفاً ثورياً.
ربما دخلنا عصر الديموقراطية من دون أن نكون ديمقراطيين بما فيه الكفاية. ليست تلك تهمة، بل نقيصة، نحتاج في مراحل الانتقال الديموقراطي إلى تداركها، حتى تستقر الديموقراطية نهائياً، ونطمر إلى الأبد، وبلا رجعة، الحنين إلى الاستبداد، وقد يطلي وجهه بالمساحيق، بما يبدو لدى بعضهم مغرياً. ليست الحالة المصرية سوى تجلٍّ عن حالة الفصام الناجم عن تلك التنشئة السياسية الخاطئة. التفاصيل العديدة الأخرى ليست سوى إكسسوارات إخراج.